حزب الله يؤكد استشهاد القيادي إبراهيم عقيل في غارة صهيونية    أخبار النادي الصّفاقسي ... الانتصار مع الاقناع    تونس : دفعة معنوية كبيرة للنجم الساحلي قبل مواجهة الإتحاد المنستيري    حكايات من الزمن الجميل .. اسماعيل ياسين... الضاحك الحزين(2 /2).. النهاية المأسوية !    في أجواء عراقية حميمة: تكريم لطفي بوشناق في اليوم الثقافي العراقي بالالكسو بتونس    عادات وتقاليد: مزارات أولياء الله الصالحين...«الزردة»... مناسبة احتفالية... بطقوس دينية    حادثة رفع علم تركيا ... رفض الإفراج عن الموقوفين    موعد انطلاق المحطات الشمسية    عاجل/ الاطاحة بمنفذ عملية السطو على فرع بنكي بالوردية..    بنزرت ماطر: العثور على جثّة طفل داخل حفرة    في قضيّة تدليس التزكيات...إحالة العياشي زمّال على المجلس الجناحي بالقيروان    يُستهدفون الواحد تلو الآخر...من «يبيع» قادة المقاومة ل «الصهاينة»؟    أم العرايس ... قصّة الفلاح الذي يبيع «الفصّة» لينجز مسرحا    شهداء وجرحى في عدوان صهيوني على لبنان .. بيروت... «غزّة جديدة»!    لقاء الترجي الرياضي وديكيداها الصومالي: وزارة الداخلية تصدر هذا البلاغ    وضعية التزويد بمادة البيض وتأمين حاجيات السوق محور جلسة عمل وزارية    مسالك توزيع المواد الغذائية وموضوع الاعلاف وقطاع الفلاحة محاور لقاء سعيد بالمدوري    بداية من 24 سبتمبر: إعادة فتح موقع التسجيل عن بعد لأقسام السنة التحضيرية    المدافع اسكندر العبيدي يعزز صفوف اتحاد بنقردان    طقس الليلة.. سحب كثيفة بعدد من المناطق    مركز النهوض بالصادرات ينظم النسخة الثانية من لقاءات صباحيات التصدير في الأقاليم من 27 سبتمبر الى 27 ديسمبر 2024    أولمبياد باريس 2024.. نتائج إيجابية لخمسة رياضيين في اختبارات المنشطات    مريم الدباغ: هذا علاش اخترت زوجي التونسي    بالفيديو: مصطفى الدلّاجي ''هذا علاش نحب قيس سعيد''    تأجيل إضراب أعوان الديوان الوطني للبريد الذي كان مقررا لثلاثة أيام بداية من الاثنين القادم    جامعة رفع الأثقال: هروب رباعين تونسيين الى الأراضي الأوروبية خلال منافسات المنافسات    بني خلاد: مرض يتسبّب في نفوق الأرانب    '' براكاج '' لسيارة تاكسي في الزهروني: الاطاحة بمنفذي العملية..    إيقاف شخصين بهذه الجهة بتهمة الاتجار بالقطع الأثرية..    غرفة الدواجن: السوق سجلت انفراجا في إمدادات اللحوم البيضاء والبيض في اليومين الاخيرين    الأولمبي الباجي: 10 لاعبين في طريقهم لتعزيز صفوف الفريق    تأجيل الجلسة العامة الانتخابية لجامعة كرة السلة إلى موفى أكتوبر القادم    زغوان: برمجة زراعة 1000 هكتار من الخضروات الشتوية و600 هكتار من الخضروات الآخر فصلية    منحة قدرها 350 دينار لهؤولاء: الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي يكشف ويوضح..    تنبيه/ اضطراب في توزيع مياه الشرب بهذه المناطق..    رئاسيات 2024 : تسجيل30 نشاطا في إطار الحملة الإنتخابية و 6 مخالفات لمترشح وحيد    فتح باب الترشح لجائزة الألكسو للإبداع والإبتكار التقني للباحثين الشبان في الوطن العربي    تونس: حجز بضائع مهرّبة فاقت قيمتها أكثر من مليار    سقوط بالون محمل بالقمامة أطلقته كوريا الشمالية بمجمع حكومي في سيئول    قفصة: إنطلاق الحملة الدعائية للمرشح قيس سعيد عبر الإتصال المباشر مع المواطنين    يهدد علم الفلك.. تسرب راديوي غير مسبوق من أقمار "ستارلينك"    "دريم سيتي" يحل ضيفا على مهرجان الخريف بباريس بداية من اليوم    رم ع الصيدلية المركزية: "توفير الأدوية بنسبة 100% أمر صعب"..    سعر الذهب يتجه نحو مستويات قياسية..هل يستمر الإرتفاع في الأشهر القادمة ؟    السيرة الذاتية للرئيس المدير العام الجديد لمؤسسة التلفزة التونسية شكري بن نصير    علماء يُطورون جهازا لعلاج مرض الزهايمر    الحماية المدنية تسجيل 368 تدخلّ وعدد366 مصاب    عاجل/ عملية طعن في مدينة روتردام..وهذه حصيلة الضحايا..    تونس تشتري 225 ألف طن من القمح في مناقصة دولية    ثامر حسني يفتتح مطعمه الجديد...هذا عنوانه    ارتفاع عائدات صادرات المنتجات الفلاحية البيولوجية ب9.7 بالمائة    تحذير طبي: جدري القردة خارج نطاق السيطرة في إفريقيا    مصادر أمريكية: إسرائيل خططت على مدى 15 عاما لعملية تفجير أجهزة ال"بيجر"    كظم الغيظ عبادة عظيمة...ادفع بالتي هي أحسن... !    والدك هو الأفضل    هام/ المتحور الجديد لكورونا: د. دغفوس يوضّح ويكشف    "من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر"...الفة يوسف    مصر.. التيجانية تعلق على اتهام أشهر شيوخها بالتحرش وتتبرأ منه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الغرب مريض بالغرب ... 1-3

النخب الغربية متعجرفة وتمارس إرهاباً فكرياً
تأليف: مارتين بولارد وجاك ديون - ترجمة وعرض: بشير البكر
الغرب يعيش اليوم مثل قلعة محاصرة . ملغوم من الداخل بسبب أزمة بنيوية مستدامة . إنه يرى زعامته محط انتقاد وتشكيك متصاعدين، كما يحس بنفسه يتعرض لهجمات من العديد من “الأعداء” الخارجيين . وذلك في الوقت الذي تنسى النخب بأن الغرب لا يمثل إلا قسماً من البشرية وأن قوى أخرى، قديمة أو جديدة، لها الحق في المطالبة بمكان لها على الخريطة العالمية . وهي تتعمد عدم التذكير بأن الهيمنة الغربية لم يكن لها وجود دائم . إنها تنسى التبادلات الأبدية بين الحضارات، وبين الثقافات، وبين الشعوب، التي شيدت أسس حضارة إنسانية، لا يمكن لأحد أن يعلن عن احتكاره لها .
هذه هي الاطروحة الأساسية للكتاب الصادر حديثا في باريس عن دار “فايار” للكاتبين الفرنسيين مارتين بولارد وجاك ديون، تحت عنوان “الغرب المريض بالغرب” . يحاول الكاتبان، مارتين بولارد، المديرة المساعدة في شهرية “لوموند ديبلوماتيك”، والمسؤولة عن قطاع آسيا، وهي مؤلفة كتاب “ الصين والهند، سباق التنين والفيل”، وجاك ديون، المدير المساعد في أسبوعية “ماريان”، تقديم خطاب يخالف الخطاب السائد، عبر “بانوراما” واسعة من الأحداث الدولية خلال السنوات الأخيرة، من الأزمة الجورجية في أغسطس/آب 2008 وانتخاب باراك أوباما، مروراً بعودة فرنسا إلى حضن حلف الأطلسي .
وبدل التقوقع على أساطير اختفت مع القرن العشرين، حان الوقت، في نظر الكاتبين، أن نأخذ في الاعتبار المعطى الجديد وتحديد شمولية جديدة . ما هو المرض الذي ينتاب الغرب إن لم يكن كونه مريضاً من نفسه؟
بداية نقرأ أن الغرب “يعيش نفسه كأنه حيوان مطارد من قبل أعداء يهاجمونه من كل جهة: من الأزمة التي تزعزع النموذج الغربي ذاته؛ ومن قِبَل انحطاط نسبي للامبراطورية الأمريكية، التي تحس بنفسها مهددة في زعامتها من قبل الصين التي ينظر إليها باعتبارها قوة الغد المفرطة؛ ومن قبل متطرفين إسلاميين، يحلمون بالانتصار على “الشيطان الأكبر”؛ ومن قبل روسيا، الخارجة من ليلة ما بَعْد سوفييتية طويلة؛ ومن قبل بلدان أمريكا اللاتينية التي بدأت بالتحرر من وصاية الولايات المتحدة الأمريكية؛ باختصار من قِبَل كل من ينتقد، بطريقة مبررة أم غير مبررة، نزوع الولايات المتحدة الأمريكية إلى قيادة العالم، كما قاد النبي موسى شعبه .
ثمة انطباع أن الغرب هو نوع من قلعة مُحاصَرة، نوع من جنة عدن تثير أطماع المحرومين، المنحدرين من مكان ما مجهول ومعروف بطريقة سيئة وإذاً مقلقة . بل يذهب البعض إلى أن العالم ولد مع الغرب القوي، وأن هذا الغرب أصبح من الآن فصاعدا مُهدَّدا في وجوده وأنه يمكن أن يختفي في حالة تقاسم السلطات والمسؤوليات .
يتعلق الأمر برؤية قياموية (من القيامة)، ولكن المؤلفين يتساءلان عن تبرير لهذه الرؤية . ولماذا يتوجب باستمرار وضع الغرب في مواجهة الآخرين، أياً كانوا . وباسم ماذا ثمة أساسٌ لتحويل الكرة الأرضية إلى حلبة صراع عبثي يتواجه فيها الغرب وبقية العالم؟
الزمن تغير، ونحن الآن نعيش زمن العولمة والشمولية والتداخل، ولم تكن رؤية العالم بمثل ما هي عليه الآن من التشظي ومن التراتبية . وعلى الرغم من أن الأرض أصبحت قرية كونية واسعة فإن عقليات النخبة الغربية لم تكن بمثل هذا التحجر . وبينما الواجب يفرض مواجهة التحديات المشتركة فإن عقليات النخب الغربية شيدت مثل هذه الحواجز في الرؤوس .
يرسم المؤلفان صورة مخيفة عن النُّخَب الغربية المتعجرفة: “حيثما تمارس موهبتها تقوم بإشاعة الإرهاب الفكري، مطيحة بكل من يرفض أن يُبجّل كلامها المقدس” .
ملوك التبسيطية، كما يطلق المؤلفان على النخب الغربية، لا يرون سوى مانوية فجة: “الطيبون” (الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها) و”الأشرار” (كل الآخرين) . يوجد المعسكر الغربي (وهو بالضرورة حامل للقيم التحريرية) وباقي العالم (ميال بطريقة أو بأخرى إلى البربرية) . ثمة قواعد الرأسمالية (التي يُؤكَّد لنا أنها تصنع السعادة والإنسانية ما أن يتم امتصاص الأزمة الحالية) وثمة العدم . “لا أحد يملك الحق في استحضار أي بديل لأن طاولة قوانين السوق ذات جوهر إلهي” .
يرى المؤلفان أن الغرب ينسى أنه لا يمثل إلا جزء من الكرة الأرضية وأن الآخر له الحق في دق باب التاريخ المعاصر .
ومن هنا ينظر الكاتبان بإعجاب إلى خطاب الرئيس الأمريكي باراك أوباما في جامعة القاهرة في الرابع من يونيو/حزيران من سنة 2009 ويعتبرانه سابقة تاريخية . “فقد ذكّر أوباما، بقوة، بإسهام الثقافة الاسلامية في النهضة الغربية ودعا إلى حوار الحضارات”، لكن المؤلفين يتأسفان لأن هذا الخطاب تُنُوسي بسرعة من قبل أنصار صدام الحضارات، في هذا المعسكر أو ذاك، والذين يواصلون تطوير بلاغة مرتكزة على المواجهة .
في نهاية القرن التاسع عشر كانت البرجوازية تتحدث عن “الطبقات الخطرة” وتعني بها الشرائح التي تريد الحصول على بعض القطع من الحلوى الاجتماعية .
يمتلك الغرب عن نفسه صورة أيديولوجية موشاة بفضائل التفوق الثابت . وعلى الرغم من اندحار طائفة المحافظين الجدد في الولايات المتحدة الأمريكية، فإن غثّ أيديولوجيتها يواصل الضغط على النفوس، كما لو كان من الصعب التخلص من اختصاراتها وأفكارها المسبقة وافتراضاتها .
ويوجه الكاتبان نقداً لاذعاً لما يسمونه المثقفين الميديويين “الذين حافظوا على عقيدة الماضي . يتحدثون مثل أوباما ويفكرون مثل بوش . ولوحة قراءتهم مستوحاة من “صدام الحضارات” للراحل هينتنغتون، وهي أطروحة شكلت مثيلا لأطروحات الأصوليين الإسلاميون الذين يصفون الغرب بالشيطان” .
في سنة 2008 تنبّأ فريد زكريا، مدير تحرير صحيفة “نيوزويك” الدولية، بقرب مجيء “عالم ما بعد أمريكي” . ولكنه اعتراف جاء بعد أن ساند التدخل الأمريكي في العراق قبل أن يعترف بخطئه ثم يقوم بتحليل كل النتائج الكارثية على الولايات المتحدة الأمريكية وعلى مجموع العالم الغربي .
ويعقّب الكاتبان على أن العالم سواء كان ما بعد أمريكيا أم لم يكن فإنه لن يظل نفس العالَم .
ابتداء من القرن السابع عشر، فرض الأوروبيون بشكل تدريجي هيمنتهم ثم كانت نهاية القرن العشرين مطبوعة بالقوة العظمى للولايات المتحدة الأمريكية التي كانت هي أيضا تحلم بعالم مرسوم من جديد حسب قوانينها وعاداتها وقِيَمِها وطقوسها .
“لكنّ هذه المرحلة ولّت” . وبدأت مرحلة أخرى ترمز إليها النهاية العنيفة لثورة المحافظين المُضادّة وأيضا بداية انحطاط الولايات المتحدة الأمريكية، على الرغم من إرادة باراك أوباما في إعادة منح أمريكا مكانتها التي خسرتها “يجب ألا ننسى أبدا أن إحدى الكلمات الأكثر استخداما من قبل أوباما هي كلمة “الزعامة”” .
إلا أنه يبقى ثمة تساؤل مشروع: هل تمتلك أمريكا وسائل طموحها؟ بعد أسابيع قليلة من انفجار الأزمة المالية، كتبت صحيفة “فار إيست إيكونوميك ريفيو” تقول: “انهيار وول ستريت يعلن انتقالا تكوينياً شاملاً”: بداية انحطاط القوة الأمريكية . نعرف الظروف التاريخية المتشابكة التي تنسف الامبراطوريات الكبرى والحضارات الكبرى . في البداية تفقد الأيديولوجيا بريقها ثم يتبعها النموذج الاقتصادي ثم لاحقا يستقر التنافس، وفي النهاية تفقد السلطة العسكرية تفوقها .
لم نصل بعد إلى هذا المستوى، ولا توجد أي أيديولوجيا بديلة تعارض النموذج الغربي، المهيمن والهش في نفس الآن . “لكن الغرب لا يزال مُسمَّرا على نموذجه وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية وعلى جيشه، حلف الأطلسي، وعلى نظامه الاقتصادي، الرأسمالية، وعلى مَحاكِمِهِ الاستثنائية، منظمة التجارة العالمية والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، وعلى أخلاقيته، الحقوق الإنسانوية” .
“والآخرون يعتبرون، في أحسن الأحوال، متوحشين يجب إدخالهم في الطريق المستقيم، وفي أسوأ الأحوال أعداء يجب محاربتهم أو أرواحا ضائعة يجب إعادة تأهيلها على طريقة الشعوب والساكنات التي يتوجب تمسيحُها كما كان يُفعَل في عز زمن المستعمرات” .
وتنتهي هذه المقدمة بهذا التساؤل النبوئي: “وماذا لو أن العدو الرئيسي للغرب يدعى الغرب؟” .
تناظر القلعة المُحاصَرَة
يقول فرانكلين روزفلت “إن الشيء الوحيد الذي يجب أن نخاف منه هو الخوف ذاته” . من الناحية الإيديولوجية تمثّل الأزمة الاقتصادية المفتوحة في سنتي 2007 2008 والتي لم تنته بعد نتائجُها للمعسكر الغربي، ما مثّله انهيار الاتحاد السوفييتي بالنسبة للمعسكر الشيوعي . على الرغم من أنها لن تؤدي إلى انهيار الرأسمالية . لكن الغرب يعيش زمن التحولات الكبرى، ونرى اليوم كثير من العلامات التي تعلن عن هذه التحولات ومن بينها الصعود السريع للصين والهند، إلى درجة أن كثيرا من المراقبين يرون أن آسيا ستسرجه دورها القديم في محيط سنة 2040 .
كما أن أمريكا الجنوبية التي كانت تعتبر حديقة خلفية للويات المتحدة الأمريكية، هي الأخرى تبحث عن أجوبة لتحديات زمننا . عدا عن أن مجموع العالم العربي في تنوعه يبحث عن التغيرات على الرغم من أنه يظل منخورا أحيانا من قبل مجموعات تستخدم الاسلام كي تجعل منه آلة حرب ضد الغرب، الذي يتم تقديمه ك “شيطان جديد” .
وفي ما يخص القارة الأوروبية فهي ترمز وحدها إلى التجاذب ما بين وحدة أوروبية لا تستطيع التخلص من الاندفاعات الأطلسية وبين روسيا خارجة من طولها الما بعد سوفييتي كي تذكّر العالم أنها كانت قوة عظمى وأنها تطمح أن تستعيد هذه المكانة .
ويواصل الكاتبان رسم لوحة بانورامية ،”كان العالم ثنائياً بعد الانتصار على النازية . معسكر مقابل معسكر آخر . الديمقراطية مقابل التوتاليتارية، الغرب مقابل الشيوعية . ولكن بعد انهيار سور برلين وتفكك الاتحاد السوفييتي، اعتقد الغرب بولادة عالم أحادي القطبية وبظهور حضارة كونية لم تكن سوى لنموذج القارة العجوز في الغرب” .
ويورد الكاتبان خطابا للرئيس الامريكي الأسبق جورج بوش الأب وذلك في 11 سبتمبر/أيلول 1990 (لاحظوا تشابه التواريخ) عن النظام العالمي الجديد، يتحدث فيه عن: “عهد جديد متحرر من الرعب ( . . .) والذي يمكن أن تتعايش فيه كل الأمم في انسجام ( . . .)، وحيث الأقوياء يحترمون حق الضعفاء” .
ومن منا ينسى في هذه الحقبة سطوة مقالات وتنظيرات المفكر وعالم السياسية الأمريكي من أصل ياباني: فرانسيس فوكوياما، خصوصا نظريته، في استعادة لأطروحة الفيلسوف الألماني هيغل، عن “نهاية التاريخ” . لكن الحال تغيرت . فالعالم في زمن انهيار السوفييت ليس هو عالم اليوم، حيث انهيار نظريات المحافظين الجدد الأمريكيين والتي يرمز إليها فوز باراك أوباما، وهو ما يجعلنا “نشهد من الآن فصاعدا عودة نظام متعدد المركز تتخلله تأكيدات هوياتية للقوى، التي ترتكز على حضارات ألفية (الصين والهند . . .)” .
البرابرة
المدافعون عن نظرية “صدام الحضارات” يظلون من أصحاب الحنين إلى عالَم تهيمن عليه أخلاق غرب واثق من نفسه ومُهيْمن . هينتنغتون، أيديولوجي من اتجاه ديمقراطي، تشغله إلى حد الهوس مشاغل هوياتية، ويشهد على الأمر أن آخر مؤلفاته قبل رحيله كان يحمل عنوان: “من نحن؟”، ويجب أن نقرأ عنوان كتابه المثير للجدل كاملا: “ صدام الحضارات وإعادة بناء نظام عالمي” .
الغرب ومثقفوه، في غالبيتهم، لا يريدون أن ينظروا إلى الآخر “المختلف” بنظرة احترام وندية .
يورد الكاتبان فقرات من مقال لجيل هيرتزوغ، وهو من عصابة برنار هنري ليفي، ورافقه في جولته إلى جورجيا بعد الحرب الجورجية الروسية: “كما حدث في البوسنة وكوسوفو، أيام “الصرب”، كما هو الحال في الشيشان، كل شهادات اللاجئين قاطعة: البرابرة يعودون” .
البرابرة؟ هكذا يشير البعض إلى هذه الدول وهذه الأقوام أو “هؤلاء الناس”، كما يكتب برنار هنري ليفي عن الروس، الذين لا “يشبهوننا”، نحن، الغربيين، نحن حملة القيم الكونية الشاملة؛ نحن فرسان حقوق الإنسان البيض؛ نحن الذين نمنح الخير للبشرية كما تمنح الأمّ ثديها لابنها . يذهب بنا التفكير إلى معادلة كلود ليفي شتروس “إننا حين نرفض الإنسانية لمن يبدو الأكثر “توحشا” أو “بربرية”، فنحن لا نفعل إلا استعارة تصرفاتهم النمطية . البربري (المتوحش)، هو قبل كل شيء من يؤمن بالبربرية” .
مجموعة من الاختزالات تخفي فكراً مركزياً موغلاً في احتقار الآخرين المختلفين .
ويورد المؤلفان أن هينتنغتون نفسه، في حرب يوغوسلافيا السابقة، سقط في اختزال مريع، حين “اقترح إخراج اليونان من العالم الغربي بدعوى أن هذا البلد وضع نفسه بشكل مفتوح في المعسكر الصربي أثناء نزاعات يوغوسلافيا السابقة . أثينا عملت يداً في يد مع موسكو لمساعدة بلغراد على الالتفاف على العقوبات الاقتصادية”، والنتيجة التي يراها هنتنغتون، وفيها بعض الاحتقار، هي التالي: “تتصرف اليونان كبلد أرثوذوكسي” .
منظّر صدمة الحضارات ليس الوحيد في هذه النظرة فالسياسي (سفير الكيان الصهيوني السابق في فرنسا) والمؤرخ الصهيوني إيلي برنافي، يستخدم لغة البندقية، بل ويطالب، في حالة وجود حوار ممكن، “بتعلم خوض الحرب” . ويعلق الكاتبان على برنافي بالقول: “وماذا لو أننا أعدنا تعلم السلام” . ومن حسن الحظ أنه يوجد في هذا الغرب المنافق والعدواني والميّال إلى الحرب والهيمنة رجال ذوو نزعات إنسانية، ومن بينهم المفكر تزيفيتان تودوروف، الذي يستشهد الكاتبان بفقرة من كتابه: “الخوف من البرابرة”: “إن تعددية الثقافات (وهي حقيقة لا يمكن التشكيك فيها) لا تمنع البتة اتحاد البشرية (وهي حقيقة لا يمكن التشكيك فيها)، ولا الحكم الذي يرسي حقيقة الأفعال الوحشية والحركات المتحضرة . لا توجد ثقافة متوحشة في ذاتها ولا يوجد من شعب متحضر بشكل نهائي: كل الشعوب يمكن أن تصبح على هذا الشكل أو على ذاك . هذه هي خاصية الجنس البشري” .
الشعور موجود لدى كل الدول والممالك . في القرن الثاني عشر، وفي الفترة التي كان فيها العرب يحكمون إسبانيا، قبل استعادة إسبانيا لمسيحيتها (ريكونكيستا)، كان قاضي طليطلة، سعيد بن أحمد، يؤكد أنه ليس ثمة شيء يمكن تعلمه من “المتوحشين”، القادمين من الشمال، الذين تم تشبيههم بالحيوانات . وفي 30 حزيران/يونيو من سنة 1798 خاطب نابليون جنوده عشية الحملة على مصر، بجملته الشهيرة: “أيها الجنود ستقومون بغزو ستكون آثاره على الحضارة وتجارة العالم أكثر من أن تُحصى” . وفي الامبراطورية العثمانية، التي امتدت ما بين 1299 و،1922 على مساحة تصل إلى الصين والهند قبل أن تتوسع حتى أوروبا، كانت الإدارة المكلفة بالعلاقات الدولية تسمى: “مكتب البرابرة” . وحين كانت أوروبا تنهب شمال وجنوب إفريقيا، وأمريكا الشمالية وآسيا الوسطى وسيبيريا وأوقيانوسيا، عند الاقتراب من القرن العشرين، كانت تدّعي أنها تقوم بالأمر باسم تحرير الشعوب التي كانت في نظرها ضعيفة .
وإذا كان التاريخ يساعدنا على الفهم، فإن الواقع الحالي أيضاً لا يختلف كثيراً، فأوروبا لا تزال تتعامل مع الدول الأخرى الضعيفة كأنها “قلعة مُحاصَرة” . وهو “تناذُر يلوث الحضارات التي كنّسَتْها رياح التاريخ الكبيرة . وكما يشير إلى المفكر ريجيس دوبريه: أسوأ شيء على ثقافة ما هو أن تظل وحيدة . أي أن تكون مستقرة وفي طريق التفقير . وقد كان هذا الأمر المصير القاتل لبعض الإثنيات البدائية، التي ظلت على مستوى نيوليتي، متطور بشكل غير كاف، وتموت من التجانس . ويمكن أن يكون عليه، الآن، حال ثقافة أورو أمريكية تتحدث باسم الغرب كله” .
ارسم لي الغرب .يقتبس المؤلفان هذا العنوان الصغير من كتاب “ الأمير الصغير”: ارسم لي خروفاً، ما الغرب، إذاً؟
“إنه ذهنية”، كما يرى غي سورمان . “إنه توجه عقلي” كما يقول الباحث روجي بول دَرْوا . ولكننا حين نستحضر الغرب، اليوم، نقوم بالخلط بين واقعين: الحضارة الغربية، والتي هي متنوعة (“الحضارة” اللاتينية لا تختزل في “الحضارة” الأنجلو ساكسونية، التي لا علاقة لها مع “الحضارة” الشمالية)، والنموذج السياسي والاقتصادي والعسكري الذي يؤمن تفوق العالم الغربي، لأسباب مُؤرَّخَة، تاريخيا . ولأن الغرب ربط خلال فترة صراعه مع الشيوعية، فإنه بعد اندحارها، بدأ “ يجد نفسه في تعارض مع نهوض روسيا وصعود قوى في آسيا وخصوصا مع قفزات في العالم العربي الإسلامي”، ولا بد من استحضار الأنثروبولوجي الكبير الراحل كلود ليفي شتراوس الذي كان يحذر من سيادة “الثقافة الواحدة” . ولكن الأزمات لا تفعل سوى منع بعض صدقية لهنتنغتون و”صدام الحضارات”، وإن كان المفكر ريجيس دوبريه يحذرنا من شخص أكثر خطورة منه، وهو المستشرق برنار لويس، الذي يقول عنه دوبريه بحق: “هو عارف أضلّه الهوى الطائفي وتصفية الحسابات” .
يرى برنار لويس، وقد كان من أشد مناصري جورج بوش الابن في غزوه للعراق، أن العالَم اخترقه منذ 14 قرنا صراع بين عقيدتين أساسيتين: الاسلام والمسيحية . ويعتقد أن الأمر سيسير على هذا النهج حتى ينتصر واحد منهما على الآخر .
هذا الصراع الأبدي بين ديانتين، وهذه النظرة التي نجدها لدى لويس هي أيضا أطروحة المتطرفين الإسلاميين، الذين يرون أن الغرب (العالم اليهودي المسيحي) لا يريد سوى القضاء على الاسلام . “هم لا يتوقفون عن استحضار دور الصليبيين في بيت المقدس وإنشاء دولة “إسرائيل” وطرد الفلسطينيين، أو أيضا احتلال أفغانستان من قبل السوفييت، الذين حل محلهم الأمريكيون وحلف الأطلسي (متناسين تحديد أن الأمريكان هم الذين سلحوا المجاهدين، الذين ولدت من بينهم طالبان، ضد السوفييت)” .
ويذهب المؤلفان إلى درجة إسباغ نفس الصفة على لويس وهنتنغتون وتلامذتهما وعلى الإسلامويين: “وفي الحقيقة فإن الاسلامويين، مثلهم مثل لويس وهنتنغنون وأتباعهما الأيديولوجيين، هم أتباع “صدمة الحضارات”، على الرغم من أن أول ضحاياهم من المسلمين” . ويضيفان: “وكما أن الغربيين استخدموا الاسلام فإن المتطرفين الاسلاميين يهاجمون، باسم القرآن، أنظمة مُشنَّعَة، تبدأ من الدول الرأسمالية المتطورة (مثل الولايات المتحدة الأمريكية) إلى أنظمة يحتقرونها وتحظى بدعم من الغربيين”، ويقتبس الكاتبان تعقيبا على الأمر، من يانيك ميرو، من كتابها: “ما بعد بوش، لماذا لا تتغير الولايات المتحدة؟”:
“أكثر من مجرد “صدمة حضارات”، يتعلق الأمر ب”صدمة الأصوليات” . ولكن الأمر ينتهي ببارقة أمل تأتي من العالمين الديموغرافيين: يوسف كرباج وإيمانويل تود، اللذين يريان أن صدمة الحضارات لن تقع: “إن دراسة المؤشرات الاجتماعية والتاريخية العميقة تفرض على العكس، فكرة “لقاء الحضارات” .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.