عرفت الساحة السياسية والاجتماعية في تونس خلال الفترة القليلة الماضية، تطورات لافتة أدت إلى تحركات نقابية مختلفة، عكست درجة الخلاف السائد بين بعض الوزارات والأطراف النقابية حول جملة من الملفات والقضايا، منها العالق منذ فترة، ومنها مشكلات جديدة سجلت على خلفية مشاريع قوانين وتعديلات اقترحتها وزارات، "من دون استشارة الطرف النقابي" كما يتردد.. ووصلت هذه التناقضات والتباينات إلى مستوى المؤسسة التشريعية، رغم أنها ليست طرفا في هذه الإشكاليات.. مظاهر خلافية متراكمة.. ويمكن للمرء أن يختزل هذه التطورات في جملة من النقاط أهمها: عدم تجديد عقد بعض أساتذة التعليم الثانوي، الأمر الذي اضطرهم لشن إضراب عن الطعام استمر زهاء الشهر، أعقبه إضراب عن العمل من قبل نقابة التعليم الثانوي، قبل أن يتوقف بعد تدخل القيادة المركزية لاتحاد الشغل.. لجوء الجامعة النقابية العامة للتعليم العالي والبحث العلمي إلى شنّ إضراب عن العمل قبل فترة، بسبب بعض الملفات العالقة في علاقة بمطالب مادية ومهنية يقول الجامعيون أنها عالقة منذ مدة ولم تعد تحتمل الانتظار، خصوصا في ضوء الحاجة المتزايدة للمدرسين الجامعيين، لتطوير ظروف عملهم التي شهدت تراجعا بفعل التطور المطرد للجامعة والأسلوب الجديد الذي بات متبعا في المؤسسة الجامعية.. الخلاف الذي حصل مؤخرا بين وزارة التعليم العالي والبحث العلمي بشأن مشروع قانون التعليم العالي، وهو خلاف أدى إلى تجاذبات بين الوزارة والنقابيين، أدى فيما أدى إلى سحب مشروع القانون من البرلمان، وإعادته إلى اللجنة البرلمانية المعنية لمزيد دراسته، فيما تولت الوزارة تعديل بعض جوانبه وفصوله، ولكن "من دون استشارة الطرف النقابي" أيضا.. واللافت للنظر في هذا السياق، أن عودة مشروع القانون إلى اللجنة البرلمانية، تم إثر مراسلة قيادة اتحاد الشغل للوزير الأول، السيد محمد الغنوشي.. وما يزال الجدل حول هذا الموضوع مستمرا إلى الآن من خلال ردود فعل الجامعيين حول هذا المشروع، وهو ما تعكسه المقالات التي تنشرها "الصباح" بشكل يومي تقريبا.. ما عرفه الحوض المنجمي بقفصة في غضون الأسابيع الماضية، على خلفية نتائج مناظرة انتداب في إحدى الشركات، لم تقنع أهالي الولاية الذين تحركوا بأشكال مختلفة للتعبير عن رفضهم لهذه النتائج، سيما وأن الطرف النقابي، تصرف بشكل سلبي فيما يعرف ب "المناب الاجتماعي" المقرر منذ العام 1993، تاريخ التوقيع على اتفاقية بين النقابة والمؤسسة.. تراكم ملف الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان منذ نحو سبع سنوات أو تزيد، وسط تباينات بشأن المتسبب في استمرار هذا الملف من دون حل، على الرغم من قناة الحوار التي تم فتحها مع قيادة الرابطة، عبر الهيئة العليا لحقوق الإنسان.. لا شك أن هذه الملفات والقضايا الخلافية، بسيطة رغم كل ما يمكن أن يقال بشأن أهميتها وتداعياتها القطاعية.. أسباب رئيسية.. صحيح أن الخلاف حول بعض فصول قانون التعليم العالي، عميقة في بعض جوانبها، وصحيح أيضا أن ما حصل في الحوض المنجمي بقفصة لافت للنظر، سيما عندما يصدر عن طرف نقابي كان هو المتسبب في تلك الأحداث، ولا شك كذلك، في أن اللجوء إلى الإضراب، يبقى من الأمور المثيرة للجدل والنقاش رغم صبغته القانونية والدستورية، لكن كل ما جدّ خلال الأسابيع الماضية، يعكس في الواقع أمرين اثنين على الأقل: وجود "شبه قطيعة" بين الطرف النقابي وبعض المؤسسات الحكومية، وبالتالي عدم توفر قنوات حوار مستمرة ومتواصلة، يمكن أن توفر حلولا لبعض المشكلات قبل تفاقمها وتطورها.. وبصرف النظر عن الطرف الذي يكرس هذه "القطيعة" أو يشجع عليها، فإن النتيجة واحدة، وهي الاتجاه ببعض المشكلات إلى أفق مسدود، مع ما يتبع ذلك بالضرورة، من تراشق بالاتهامات وردود الأفعال والحملات والحملات المضادة، بشكل يقدم الوضع وكأنه في حالة ميئوس منها، فيما أن الوضع يحتمل أكثر من سيناريو للحل.. تصرف بعض الوزارات بمنطق أحادي عند صياغة القوانين، فلا هي تستشير النقابيين وبعض المعنيين في هذا الموضوع أو ذاك، ولا هي تأخذ برأي بعض المؤسسات الاستشارية لكي تكون حاضنة للرأي والرأي الآخر من ناحية، وبمثابة "المطبخ" لهذه النصوص ضمن سياق مساهمتها في مزيد بلورتها وتطويرها من ناحية ثانية.. والنتيجة الحتمية لكل ذلك، هي تشبث كل طرف بموقفه وإصراره عليه.. لقد كشفت الأحداث والوقائع المسجلة منذ عدة أسابيع، وجود حاجة ماسة لمأسسة الحوار بين مختلف الأطراف، من خلال إنشاء "لجنة عليا للتفاوض"، تكون دائمة ولا ترتبط بالمفاوضات الاجتماعية الدورية المتعارف عليها، على أن تتداول هذه اللجنة بخصوص جميع المستجدات، ويعهد إليها النظر في كل الملفات والخلافات التي تحصل بين هذا الطرف وذاك.. لكن يبقى الحوار، هو الآلية الضرورية التي لا بد من اعتمادها بين جميع الأطراف، فالحوار يعبّد الطريق أمام الوفاق، وهو ما يقطع الطريق أمام أية إخلالات اجتماعية مهما كان حجمها وأهميتها.. إن الوضع الدولي المتقلب، والمقبل على تطورات اقتصادية واجتماعية شديدة الحساسية، يفترض من جميع الأطراف شراكة فعلية في صياغة القوانين، وإذا ما استحال ذلك، فالحوار يبقى هو العنوان الأبرز للالتفاف على تناقضات وحساسيات تبدو بعض القطاعات في غير حاجة إليها..