عندما يجنّ اللّيل ويرخي سدوله على هدوء الكون في سباته الجميل، ويهرع بقيّة الخلق إلى مخادعهم طلبا للرّاحة، يصيب عائلة “الحاج بلقاسم" الأرق، ولا تنعم أعينهم بسنة من النّوم كبقيّة خلق الله، فقلوبهم تمتلئ رعبا وخوفا من المتربصين بهم في اللّيل البهيم. وكلّما تسارعت دقّات السّاعة موغلة في رداء “اللّيل الطويل"، “اللّيل المتمطّط" الذي لا يريد أن ينقضي... إلا وتسارعت معها دقّات قلوبهم وازداد خوفهم وهلعهم... “مرّ يا ليل مرّ بسرعة قبل قدومهم... مرّ يا ليل... مرّ قبل مجيء فرق “المداهمات الليليّة"... مرّ قبل أن تنهال علينا فرق “المداهمات الليلية" بالضرب وباللّكم وبالرّكل فإنّهم لا يعرفون للرّحمة معنى... “ألا أيّها اللّيل الطّويل ألا انجلي بصبح وما الإصباح منك بأمثل“ مرّ يا ليل فإنّني لا أتحمّل لكماته... اقتادني بكلّ وحشيّة إلى حيث لا يسمع صراخي أحد، وسدّد إليّ لكمة أردتني على الأرض... صريعا... فاقدا الوعي كليّا... فتتراقص أحلام الغيب بمخيلتي... ثم تنبعث فيّ إشعاعات اليقظة من جديد... فتتراء في مخيّلتي أشعار الصّعاليك الذين تحدّوا مجتمعاتهم، فأستحضر القصائد الشعريّة لعديد الشّعراء، علّها تضخّ في نفسي نبضات من الشّجاعة، فتشحذ معلّقات امرئ القيس وطرفة وعنترة وابن كلثوم عزيمتي... وتنير جماليات قصائد “بودلار" الظّلام الذي يسكنني... الظّلام الذي يزحف على الكون تدريجيّا، فيطبق عليه بين أجنحته “البُراقيّة"... عندما يأتي المساء وتنزاح آخر خيوط ضوء النّهار، تستحيل اليقظة إلى كابوس... فيعلن ظلام الليل عن قدوم المارد المخيف. باللّيل تخلع فرق المداهمات عنها “ثوب الإنسانيّة"، وترتدي ثوب “الوحوش الضّارية" فتنقلب أظافرهم الآدمية إلى مخالب حادّة ، وأسنانها البشريّة إلى أنياب مصّاصي الدّماء، وبريق أعينهم إلى وميض برق خاطف، فيتحوّلون من جنس بني البشر إلى “جنس الوحوش“... اللّيلة السّوداء الأولى: كانت تلك الليلةُ من أتعس الليالي التي عاشتها عائلة “الحاج بلقاسم" في حياتها، إذ سرعان ما بدّد سكونَ اللّيل وقعُ أرجلهم من على أسوار حديقة منزلهم... يتقدّم الدوّيُّ نحو الباب الرئيسيّ، دوّي أرجلهم " كجلمود صخر حطّه السّيل من عل"، دُفع البابُ بكلّ قوّة... فضاق عليهم المكانُ، فاصّاعدت أنفاسهم ضيّقة من بين صدورهم... فاختنقت حناجرهم... تقدّمهم جميعا، طويل القامة، نحيف الجسم، ممدود الوجه، “دخانيّ" البشرة، سُلب منه ماء الحياء، اتّجهت أنظارهم إليه بكلّ ريبة... حاصرتهم نظراته الحادّة، وصدّهم صوته الخشن، فانتابهم الخوف... هيأته، حركته ووقفته... تملّكهم الذّعر.... “زعيمهم"... هو عينه... تتبعه فرقته، ثمّ سرعان ما تحلّقوا حوله، فأعطاهم إشارة بدأ “التحرّك"، فانقسموا بكلّ “البيوت“. فأسرع “سرب" منهم “يقلب" المنزل رأسا على عقب، يبحثون في كلّ ركن بالبيت، وفي كل زاوية منه ... وينهبون كلّ ما وقعت عليه أيديهم، فحملوا مجموعة من"الألبومات“، وتوجّه “هو" صحبة “سرب" ثان منهم إلى “غرفة نوم الحاج بلقاسم" وقد أشهر مسدّسه في رأسه مهدّدا إيّاه بالقتل... قتلوه فعلا لكن ليس بالمسدّس بل “عرقا بعد عرق" إذ عندما يداهمهم “بفرقته" يزداد ضغط “الحاج بلقاسم" وتتأزّم صحّته وتصيبه نوبات قلبيّة شديدة، كانت إحداها سببا لوفاته... أخذت صحّته تسوء، وساءت أكثر عندما علم بأنّ مدّة سجن ابنه “ثمان سنوات" عن طريق الصّدفة، رغم حرص بقيّة أفراد العائلة الشّديد على التكتّم وعدم البوح له بمدة سجن ابنه... فلمّا علم ازدادت نوباته القلبيّة، فازداد تردّده على طبيب “القلب" الذي أعلمه بأن لا ينقطع عن تناول حبوب الدّواء مهما كلّفه الأمر. إلاّ أنّ “الحاج" كان كثيرا ما لا يتناول تلك الحبوب أو لا يتناولها بانتظام بفعل تنقّله الدّائم بين المدن حسب تنقّلات ابنه بين السّجون فمن سجن 9 أبريل إلى سجن مرناق إلى بنزرت إلى سوسة إلى صفاقس وكان كلّما رجع من الزّيارة إلا وازدادت صحّته تعكّرا، ولزم الفراش أيّاما للرّاحة. وكلّما أراد أن يتحامل على نفسه فينهض على أنّه في صحّة جيّدة إلا وانتابته رعشة كان يرتعش جدّا... كان واقفا قبالة “ابنه الأصغر" كاد أن يسقط اندهش ابنه بادئ الأمر ثم شعر بألم كبير... انتابه شعور ممزوج بالعطف وبالألم ثم سأله “مالك يا أبي"؟ فتنهّد طويلا ثم شرع يتحسّس كرسيّ الجلوس ويتلمّسه بين يديه المرتعشتين كأنّه يستعين بها كي لا يسقط...