تأخر جني الزيتون عن مواعيده، في بلد الزيتون، واختل نظم الإنتاج بولايات القطب المنجمي، وتعطلت مصانع الأسمدة الكيميائية في بلد تصدير الفائض من أصنافها الزراعية، وانقطع الشحن بالمواني والمطارات، وتعفنت الساحات والشوارع بالفضلات المنزلية والمزابل النتنة. يبحث البناء عن العامل والحداد عن الأجير، وتفتش ربة البيت عن المعينة المنزلية... فلا مرشحا ولا مجيبا. هل هاجر كلهم إلى جزيرة «لمبدوزة» الإيطالية أم امتصتهم ورشات الاعمار في ليبيا، إذا أصبح سوق الشغل موسوما هكذا بالندرة وبلغ الطلب درجة الإشباع ، فطوبى للوطن وبشرى للحكومة والحمد لمفرّج الكروب. ولكن ما بالنا نواصل التذمر من بطالة القوى الناشطة، وما بال الاضرابات تكتظ بجموعها الساحات، ويحتشد اللغط على أبواب المجلس التأسيسي ومراكز السلطة. وما مبرر هذه الاعتصامات المعرقلة بأخشابها وعجلاتها المحروقة. ثم من هم هؤلاء العاكفون بالمقاهي وأولئك المتنادون باستحقاقات الشغل أساسا للكرامة. ثم من أين جئنا بإحصاءات الثمانمائة ألف عاطل، وقد بات الرقم فزاعة استنفار ومطية المعارضة، والسبب الأكبر لأرق حكومة الجبالي. ما الذي قفز بأعداد العاطلين من رقم الثلاثمائة وخمسين ألفا آخر عام 2010 عند اندلاع الثورة. فهل نتجت مضاعفة العدد عن غلق المعامل، وهجرة المصانع وعن عطالة الفنادق السياحية ووكالات الأسفار وشركات النقل وكساد المتاجر الحرفية وانخرام نسق الإنتاج في قطاعات المعامل والخدمات... عندئذ فالمسرّحون من هذه القطاعات ليسوا عاطلين من صنف المطالبين بالتوظيف للمرة الأولى، حسب التعريف المتداول لدى منظمة العمل الدولية في جنيف. وبطالتهم من جنس اقتصادي وظاهرة عرضية زائلة، نتيجة اختلالات ظرفية لحقت بالمؤسسات في فترة الفوضى والكساد، وتصبح معضلتهم إعادة تشغيل لمؤسسات قائمة، يتوقف أمرها على توفير الأمن والاستقرار، لاعلى تمويل استثمارات مستحدثة ولا على بعث مؤسسات جديدة. ويتشارك في حل هذه المعضلة واستئناف تشغيل العاطلين. السلط العمومية بلا شك، سلطات الأمن والقضاء بالدرجة الأولى، ومنظمات المجتمع المدني، وفي مقدمتها الاتحادات المهنية، ويحمل أوزارها العاطلون أنفسهم بالقدر الأوفى، إذ غفلوا عن أنّ الإسراف في المطلبية واغتنام الثورة فرصة للمزايدة يعني المغامرة برأس المال، وإفساد التوازن القسط في نشاط المؤسسة بين الجدوى الربحية الواجبة لأصحاب الاستثمار و بين الفوائد الاجتماعية المستحقة للعمال. لا شيء من هذا القصد يرجى إدراكه في بيئة الفوضى وفي ظل الفهم الأخرق لنعمة الحرية ولمحاذير توظيفها. ولا طمع في استئناف نشاط المؤسسات العاطلة ولا في ضخ الأموال لاستثمارات جديدة، إذا بقى التمويل في نظر أصحابه مجازفة، وكان توظيفه صفقة خاسرة في سوق مستقبلها غامض، وتقلباتها غير مأمونة، وامنها مفقود واستقرار نظامها معرض للاهتزاز كل حين... والأمن في الأدبيات الاقتصادية هوالشرط الواجب لكل استثمار، بفضله يتحقق للمستثمر شفافية الآفاق وتواصل عمر الإنتاج، وتوسيع أحجام التشغيل، وبلوغ مراتب الجدوى القسط. أضحى المسكوت عنه في أوطاننا أن علاقة المواطن بالعمل تحولت تحولا جذريا في تركيب عناصرها وفي مضامين دلالتها. وغدت معضلة سياسية في المقام الأول، قبل أن تكون حقا مدنيا على خطوط التماس بين الحقلين الاجتماعي والاقتصادي. وأصبحت قضية أمن واستقرار، وارتقى الوعي بممارسة العمل إلى مرتبة الاستحقاقات الذاتية لكرامة المواطنة، فوق كونها مورد رزق. وأن الكرامة ثمنها لا يقدر بالدنانير، وأن قيمة هذا الحق أوسع من مبلغ الأجر، وأن واجب توفيره أعلى مسؤوليات الدولة. وقد أضافت الثورة لهذه الدلالات المتراكمة وجه التوسع في توظيف الحرية. وأصبح مدار الاختيار الفردي لجنس العمل ولقبول ممارسته لا يتوقف فحسب على مقاييس التعب في الجهد ومبلغ الأجر المرتقب، ومظاهر الوجاهة الاجتماعية، بل يخضع في الجانب المدني لمنهج التواكل والتخفّف من المسؤولية الشخصية ومن واجب السعي لاستنباط فرص العمل. وبات المطلب المشروع للمواطن سلاح مشاكسة في ساحات المنافسة الحزبية ومطية سياسية لاستنفار الشارع، ووسيلة متاحة لكسب الأنصار وتوسيع القاعدة الانتخابية. الفريضة الغائبة في هذا الجدل أن العمل واجب، بشتى دلالات الوجوب، وأن أداء الواجب هو الوجه الثاني اللازم للتمتع بالحقوق، وغدا السلوك المدني بهذا الشأن كسلوك المسافرين بمحطة الأرتال ينتظرون جلوسا أن تبشر الصفارة بقدوم القطار. ولا يستنكف شبابنا عن ذل الاستقالة، وفي طي هذه الاستقالة خطيئتان اثنتان: هدر الكرامة من صاحب اليد السفلى، لا يستنكف من التبعية إلى الآخر في قوام ضرورياته الحياتية، وخطيئة ثانية أشد مرارة هي الرضى بفقدان الحياة مقاصدها القيمية ومبرراتها الأخلاقية، إذ لا معنى لحياة جرادء من كل جهد مبذول، عارية من كل سمو، ولا شرف لذات لا تشارك أهلها بالبذل، ولا تنفع عيال الله بالإحسان. من أجل ذلك كان العمل، العمل الصالح قرين الإيمان في القرآن الكريم، وعمدته الرافعة إلى المقام الرباني «إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه». يؤكد محمد عابد الجابري في كتاب العقل الأخلاقي العربي (ص593) بأن «القيمة المركزية في أخلاق القرآن هو العمل الصالح، وكأنها ترتبط معه بعلاقة شرط بمشروط... وأن الإيمان وحده ليس تقوى، بل لا بد أن يصاحبه العمل الصالح»، نحن بحاجة أكيدة إلى تأصيل ثقافة العمل، بجناحي الوجوب والاستحقاق متلازمين متكاملين. وأن نرسّخ في التربية المدرسية حب العمل، ومشاعر الإعجاب والاعتزاز بالبناة العاملين الصالحين من أسلافنا، صناع حضارة وعمران، وأن نوطن عبقرية العمل في شبابنا وقوامة الشموخ والأنفة والتعويل على الذات، تأصيلا للكرامة. ولا يشك أحد في أن البطالة معضلة وطنية، وحلها أوسع من توفير الاستثمارات المالية، وأشمل من انفراد الدولة بتبعة حملها، وأسمى من تدنيس منزلتها في الأنفس بمشاعر التملص من المسؤولية والرضى بمواقع الإعالة والتواكل. أوطاننا فتحت الثورة في آفاق شبابها أمال الانعتاق السياسي والرقي الاجتماعي والرفاه الاقتصادي. وما نحن مدركون لشيء من هذه المقاصد المشروعة إلا إذا ارتقينا إلى منزلة مجتمع العمل، أسوة بتجربة أقوام من المعاصرين.. مثل اليابان وكوريا، أوطانهم شحيحة بالموارد الطبيعية، وشعوبهم غنية كأطيب ما يكون الرفاه، العمل ثروتهم الزكية، العمل بدلالات الإبداع الفكري والبحث العلمي، والعمل بالجهد الدؤوب أطول ساعات النهار وأوفر أيام السنة، وأطيب سنين العمر.