هو الإمام الأعظم، وإمام أهل الرأي وفقيه العراق، هو أبو حنيفة النعمان بن ثابت، ولد بالأنبار سنة 80 ه وتوفي سنة 150 ه، وقيل سُقي السّمّ فمات، لزم تعلّم الفقه منذ صغره طلبا لنباهة الشأن وإفتاء الناس في مسائلهم. ودرس مع الفقه علم الكلام حتى بلغ فيه شأوا يُشار إليه فيه بالأصابع على حدّ تعبيره. وقد أخذ الفقه عن حمّاد بن أبي سليمان، لزمه مدّة ثماني عشرة سنة حتى تكوّن في الفقه ونبه شأنه وعلا صيته وأكرمه الخلفاء والأمراء والوزراء.
كان يحيي الليل كلّه، ويختم القرآن في رمضان ستين ختمة، ختمتين كل يوم، ختمة بالليل وختمة بالنهار، وكان يصلّي الغداة ثم يجلس للناس للعلم الى أن يصلّي الظهر، ثم يجلس الى العصر، فإذا صلّى العصر جلس الى المغرب، فإذا صلّى المغرب جلس الى أن يصلّي العشاء الآخرة، أي أنه يدرّس كامل اليوم من الفجر الى العشاء، ثم ينتصب للصلاة الى طلوع الفجر، ويتفرّغ للعبادة، ومما قيل عنه إنه كان يصلّي الفجر بوضوء العشاء أربعين سنة، وكان يسمع بكاؤه بالليل حتى يرحمه جيرانه، ورغم ذلك كان بعضهم يغار منه ويحسده ويتآمر عليه، فكان يقول:
«إن يحسدوني فإنّي غير لائمهم قبلي من النّاس أهل الفضل قد حسدوا»
وعرف أبو حنيفة بأنه أمام أهل الرأي، فهو يحترز في الاعتماد على الحديث ويقول «ما جاءنا عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قبلناه على الرأس والعين، وما جاءنا عن أصحابه أخذناه منهم ولم نخرج عن قولهم، وما جاءنا عن التابعين فهم رجال ونحن رجال، فأما غير ذلك فلا نسمع».
وقد بيّن أبو حنيفة منهجه في هذا القول «إني آخذ بكتاب اللّه إذا وجدته فما لم أجده فيه أخذت بسنّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم والآثار الصحاح عنه التي فشت في أيدي الثقات، فإذا لم أجد أخذت بقول أصحابه من شئت وأدعو من شئت ثم أخرج من قولهم الى قول غيرهم، فإذا انتهى الأمر الى التابعين فلي أن أجتهد».
وبعبارة أخرى كان يقول «أنا آخذ أولا بكتاب اللّه، ثم بالسنّة، ثم بأقضية الصحابة، وأعمل بما يتفقون عليه، فإن اختلفوا قست حكما على حكم، بجامع العلّة بين المسألتين، حتى يتّضح المعنى».
هكذا اعتمد أبو حنيفة منهج القياس طريقة للاجتهاد واستنباط الأحكام، فهو الذي وضع هذا المنهج فسار عليه المذهب الحنفي في ما بعد.
وتظهر أصول التشريع عند أبي حنيفة في ذينك القولين وهي أولا القرآن ثم السنّة ثم التحرّر من أقوال التابعين لإبداء الرأي. ويتشدّد في قبول الحديث النبوي ولا يعتبر إلا المتواتر منه أو المشهور المتفق عليه ويلجأ الى استعمال القياس والاعتماد على مبدأي الاستحسان والمصلحة العامة فيتوسّع في الاجتهاد إذا ما غاب النصّ.
وتميّز المذهب الحنفي باستعمال الحيل الشرعية خاصة في مسائل المعاملات، وقد درس أبو حنيفة علم الكلام وتضلّع منه في أول شبابه قبل أن يلتجئ الى الفقه ويتخصّص فيه، وألف كتبا في علم الكلام منها الفقه الأكبر، والرد على القدرية والعالم والمتعلّم.
وأهم كتبه «المسند» الذي جمعه عدد من تلامذته وتعدّدت رواياته منها رواية الإمام أبي يوسف، ورواية محمد بن الحسن وروايات أخرى جمعت في كتاب «جامع المسانيد» للخوارزمي.