كان إلى جانب زوجته، يشدو أعذب الأغاني الملتزمة، ويصفق ويبكي...دمعه على الخد يسيل، ويداه لا تهدآن تصفيقا وتحريكا... كهل يبدو وأنه جاوز الخمسين من العمر في غمرة تلك الأحاسيس التي عاشها ليلة أول أمس أمام المسرح البلدي. توجهنا نحوه لنكتشف سرّ تلك الدموع فقال إنه لأول مرة يشعر بطعم الحرية وإنه لأول مرة يشعر بطعم الثورة... كل شيء أحسه كان لأول مرة ، لكنه لم يقل تلك المقولة الشهير : «هرمنا من أجل هذه اللحظات التاريخية». هذا الكهل هو السيد علي (متقاعد) رفض التصوير لكنه لم يرفض التعبير...لأنه حضر أمام المسرح البلدي لأجل حرية التعبير وحق الشغالين...تملكته أحاسيس لم يقدر على وصفها...بيد أنه بكى...بكاء الفرح...وكفى. كان الرجل واقفا تقريبا في الصف الأخير على الرصيف مع الجمع الغفير الحاضر أمام المسرح البلدي لكنه ليس الصف الأخير الذي إمتد إلى الشارع الذي يتوسط الأشجار...بدلته الرمادية لم تمنعه من التصفيق والتعبير بجسده عن أحاسيسه، كأغلب الحاضرين هناك في الصفوف الأمامية المكتضة. أجواء منعشة وخاصة جدا لم يشهدها منذ سنوات عجاف، عاشها شارع الحبيب بورقيبة مساء أول أمس بتنظيم من الاتحاد العام التونسي للشغل في ذكرى عيد الشغالين تحت شعار «كرامة الشغالين من كرامة الوطن»...شعار أضاف له الحاضرون هتافا شعار: «شغل...حرية...كرامة وطنية». حفل إستثنائي وفي واقع الأمر، نظم الإتحاد العام التونسي للشغل ليلة أول أمس، حفلا فنيا، احتفالا بذكرى عيد الشغالين، أمام المسرح البلدي بالعاصمة وكان الحفل مفتوحا للعموم، حفل كرم خلاله الشغالين ومناضلي الاتحاد العام التونسي للشغل والشهداء والفنان الراحل الهادي قلة والشاعر الراحل عبد الحفيظ المختومي...وأثث هذا الحفل كل من الفنانين نبراس شمام (البحث الموسيقي) وجمال قلة، وياسر جرادي (فرقة ديما ديما) وامال الحمروني وخميس البحري (فرقة عيون الكلام) ولبنى نعمان (فرقة حسّ) بينما غاب أو تغيب «بنديرمان» الذي كان في البرنامج حضوره في احتفال «الاتحاد» بذكرى عيد الشغالين بينما قدمت الحفل ونشطته الحقوقية والشاعرة يسرى فراوس. «نشبه الشعب والشعب يشبهنا» وفي الوقت الذي كان فيه الفنان جمال قلة يشدو بأحلى الأغاني الملتزمة وفي غمرة نشوة الجمهور وتفاعله مع هذه الأغاني إتجهنا صوب كواليس المسرح البلدي... هناك وجدنا الثنائي آمال الحمروني وخميس البحري ينتظران الوصلة الخاصة بفرقتهم «عيون الكلام» للخروج «للشارع». وقبل أن أبادرها بالسؤال سألتني الفنانة آمال الحمروني عن الإقبال الجماهيري فقلت إنه إقبال جيد زاده التفاعل وحفظ الجمهور للأغاني رونقا خاص...إجابة كانت كافية لطمأنتها...وبدموع ترقرقت في عينيها دون أن تخرج تأهبت للإجابة عن أسئلتنا لتتحدث في البداية بنشوة وإعتزاز عن أحاسيسها، تجاه هذا الاحتفال الخاص قائلة : «أنا سعيدة جدا...فمنذ يوم 14 جانفي 2011، وأنا محرومة من الغناء بشارع الحبيب بورقيبة، وبفضل الاتحاد تحققت رغبتي...اليوم أنا سعيدة... سأغني في شارع بورقيبة وفي عيد الشغالين...اليوم وصلنا لنقطة اللاعودة رغم بعض المخاوف التي مازالت تسكننا. الشارع لنا، ولن يمرّوا على جثتنا...ولما لا، يصبح الاحتفال بعيد الشغالين، لا الشغل سنويا بشارع بورقيبة...» كانت آمال تتحدث بحيوية غير معهودة وبشحنة معنوية كبيرة جدا، كيف لا وهي التي خرجت وزملائها من القاعات المغلقة، ومن المواعيد غير المعلنة إلى الشارع الرئيسي بالعاصمة لتغني للشعب ويغني معها وهي القائلة «اليوم تأكد للجميع أننا نشبه الشعب والشعب يشبهنا... اليوم أكد الشعب أنه في هذا الشارع يعبر عن ذاته وسيظل ويوميا سيكتشف نفسه أكثر بعد كبت تواصل لعقود...إنه مذاق الحرية الحلو...آه ما أحلى الحرية...اليوم أنا واعية بأن صوتي لن يسكت في المستقبل...» أجمل الكلمات في عيد الشغالين صوت في الواقع أطلق عنانه مرددا «قمرة يا الوقادة» ليطفئ عطش الكبت والإقصاء من الشارع الذي هو من المفترض المكان الطبيعي للأغاني الملتزمة أو البديلة في كل الأوطان... صوت غنى كذلك جديد مجموعة «عيون الكلام» الأغنية التي تقول مطلعها : إرفع رأسك في الفلوجة إرفع رأسك في جينين إرفع رأسك في بوزيد إرفع رأسك في القصرين ومنها أي الأغنية إلى أحلى ما غنى الشيخ إمام وغنى بالأمس الأول شباب وكهول ورجال ونساء وأطفال الاتحاد بشارع الحبيب بورقيبة ومن حضر منكم الإحتفال، حتما لن ينسى أصغر طفل في الاتحاد العام التونسي للشغل...الطفل سليم...الذي بمجرد أن أمسك المصدح بين يديه الرقيقتين أخرج صوت شاب أو رجل مسؤول ليرفع أغلى شعارات العمال والشغالين ويطلب من الاتحاد بكل جوارحه، أن يضمن كرامة الشغالين . رمزية شارع بورقيبة ونحن نتجول بين تلك الأعداء الغفيرة من الجماهير الحاضرة أمام المسرح البلدي، إلتقينا زميلنا كمال هلالي، الذي بدا هادئا ومتأملا «أكثر من اللزوم، بادرناه بالسؤال عن رأيه في الاحتفال ودون جزئيات لخّص موقفه قائلا : « هذا الاحتفال أعاد رمزية الشارع الرئيسي بالعاصمة، وأعاد الأغنية الملتزمة إلى مكانها الطبيعي (الشارع) وهذه الأجواء المنعشة لم نشهدها بل بقينا ننتظرها منذ 14 جانفي 2011، وكأنه إحتفال بالثورة وبالشغالين وبفصل الربيع...ونأمل أن تعم الفائدة على الشغالين وتتقلص البطالة وتنبت الثورة نباتا طيبا كنبات الربيع..» عرس حقيقي ولئن إختار كمال هلالي صورة الربيع وجماله للتعبير عن موقفه فإن زميلنا محمد سفينة إختار التشبيه البليغ للتعبير عن إحساسه والحديث عن حضوره المفاجئ لكل زملائه وهو الذي إحتفل مساء أمس بزفافه... يقول محمد سفينة بإبتسامة المعهودة : «أنا من الشغالين وهذا هو النصف الأول من حفل زفافي، وكما ترون نحن قادرون على الزواج في عيد الشغل واليوم العرس عرسين»...وأنهى حديثه بضحكته المميزة كالعادة. إرادة الشعب في حب الحياة الإحتفال بعيد الشغالين ليلة أول أمس كانت له نكهة خاصة والتعبير عنها اختلف من شخص لآخر فالسيد نور الدين الشمنقي كاتب عام نقابة المتفقدين للمدارس الابتدائية إعتبر هذا الاحتفال تعبيرة عن إرادة الشعب التونسي في حب الحياة ويؤكد بما لا يدع مجالا للشك على حدّ قوله، «قوة المجتمع المدني والحركة الديمقراطية في تونس ضد كل أشكال السلطة...سلطة الإستبداد بكل تمظهراتها : «الدينية والعرقية». وأضاف السيد نور الدين الشمنقي موضحا : «الإتحاد العام التونسي للشغل، بهذه الإحتفالية، مثلما كان سيظل الرقم الصعب في المعادلة التونسية، لأن الإتحاد هو نصير المجتمع الحداثي وهو الذي يريد المستقبل». احتفال بطعم الحرية السيدة وسيلة العياشي عضوة المكتب التنفيذي بالاتحاد الجهوي للشغل ببن عروس ذهبت إلى أن إحتفال أمس الأول ، هو إحتفال بذكرى عالمية، كنا نحتفل بها بكل مرارة على حدّ تعبيرها في السنوات الفارطة وأضافت : «كنا محرومين من مثل هذه الأجواء الاحتفالية، وحتى إحتفالاتنا كانت تلتئم في فضاءات مغلقة واليوم كما ترون الاحتفال مفتوح للجميع وإحساس بطعم الحرية نعيشه في هذه اللحظات بفضل الشهداء والمناضلين الذين دفعوا الثمن في سنوات الجمر». إحتفال أمس الأول كان إحتفالا ناجحا، وإستثنائيا وهو ما أكده عدد كبير من الحاضرين وربما سيكون الاحتفال عالميا لو حضره مارسيل خليفة وأنشد «شدوا الهمة...الهمة قوية» ولو أن الحفل نجح رمزيا كأفضل ما يكون وكما قال خميس البحري في الحفل «كنا ندخل المسرح البلدي لنغني به ، واليوم نخرج من المسرح البلدي لنغني بشارع بورقيبة».