كلّما احتجت الى أن أستعيد طفولتي قرأت أشعاره وكلما أحسست برغبة قصيّة تجرفني الى نقائي الأول, الى صفوة الصبى قرأت أقاصيص الأطفال, فاذا أنا في نشوة من يستعيد حلمه بعد أن فرّ الحلم منه واذا أنا في حزن بهيج:
حزن لا أدري مأتاه يتبدى لي وراء السطور أفك ألغازه وقد يعييني البحث ففي لحاء الجذور سر كمين: سر محمد البقلوطي الطفل وهو يفتح شبابيك الرصيف, رصيف بلا فوانيس لم تترك العربات في صمتها على خدوده الجريحة الا شقوقها, طفولة متلعثمة, أصداؤها قاسية, مغمّسة في ظلام يحلم بالفجر وبالوعد والوجيب. لذا تخاتلك هذه القصص, وما أعجبها بقبس من فرح وبسلافة وقت مجنّح الى شاعر رابض في جذع الريح, يمرق من خلل الغيمة باسقا كالنور, حزينا كالطلع الفاخر, يركب الموج سؤالا وحالة معتّقة بالخلاص. انظره كيف يبدد الحزن وكيف يشيع ألق المدى و«يشتاق نخلة في مداه». انظره عاشقا «أطفأته المدينة» فاذا هو في رؤاه». ولست أعني, هنا, الاّ ما ترسّب في نصوص البقلوطي القصصية: فكل المدارات تفضي الى طفولة حالمة والى شكل من الكتابة يباغتنا بشفافية الشعر وبخيال يفيض على حدث الحكاية, حتى تخال الحكاية هي من الأعاجيب قدّت, ولا سحر فيها الا من سحر صانعها يبذل فيها قصارى الخيال فيستنبتها من واقع, مهما طوح بك فهو اليه يعود وأنت يا قارئي منشوده, بك يلوذ «مغتبطا بجنونه الجميل». أنت يا طفلي الجميل تأخذك هذي الأقاصيص الى عالمها الجميل وتحملك الى حدائقها السريّة ودهشة طفولتها الأولى. فلكل حكاية حدث ما أن تدخل في غماره حتى تنشدّ اليه, حوارا أليفا قدّ من الواقع بطرف ومن الخيال بطرف في لغة شفيفة ترشح بالصور, وما أقربها الى الوجدان وما أحوج الطفل اليها, تزينها لوحات, ان تأملتها, بألوانها وأشكالها وتنوّع فنيات تصميمها وصياغة فكرتها على فضاء الورق, حكت لك عن سرّ كتابة عاشقة للطفل. هكذا أعمال محمد البقلوطي القصصية: حكايا على حكايا, ألوان وأوزان ونثر كأنه شعر وشعر كأنه رسم ورسم كأنه شعر. يقرؤها الطفل فينجذب اليها انجذابا ويقرؤها الكهل فتعيد اليه طفولته الهاربة. الم يقل الشاعر في ديوانه الأول: « فأنا أعشق صغري وأنا أهفو لأيام الطفولة». ان الذي يعشق طفولته كيفما كانت ببهجتها وشقاوتها وأوجاعها يظل طفلا أبدا, لا يكبر الا خارج الكتابة. ومحمد البقلوطي ظل شاعرا طفلا يحب الحياة, حتى وهو يواجه الموت بالكتابة. هكذا حدث الكتابة يؤسس لأحلام طفولة شاردة, بلا ضفاف. وهكذا أهدى إلينا محمد البقلوطي عصارة طفولته ثم ودّعنا ليترك بين أيدينا جميعا أمانة قراءته حتى لا يذهب ما كتبه سدى.