تسجيل رجة ارضية بقوة 8ر2 درجة شمال شرق الوردانين من ولاية المنستير    بنزرت: حجز أطنان من الخضر واعادة ضخها بمسالك التوزيع القانونية    بنزرت:حجز حوالي 82,5طن من الخضر وإعادة ضخها بالمسالك القانونية    القضية الفلسطينية: تونس تصوّت لصالح تنفيذ الرأي الاستشاري لمحكمة العدل..    امرأة تذبح نفسها محاولة الانتحار في بث على "التيكتوك"..ما القصة..؟    الإعلامي المصري أحمد شوبير يعود من جديد    عاجل : القبض على ''تيكتوكوز"'' عربية مشهورة    ماسك يتهم السلطات الأمريكية بممارسة الرقابة    انفجارات أجهزة الاتصال اللاسلكية في لبنان تهز تايوان.. لماذا؟    التقلبات الجوية: وزارة الفلاحة تحذر الفلاحين    التوقعات الجوية لهذا اليوم..    السجن لمواطن اعتدى على طبيب بمستشفى فطومة بورقيبة بالمنستير..#خبر_عاجل    الملاسين: محاصرة منحرف خطير محل 26 منشور تفتيش    طقس اليوم الخميس    كوريا الشمالية تطلق 160 بالونا محملا بالقمامة عبر حدود جارتها الجنوبية    اطلاق مجلس الاعمال التونسي النرويجي وتوقيع مذكرات تفاهم تونسية - نرويجية    بانتظار كلمة نصرالله اليوم.. حزب الله يتوعد إسرائيل ب"عقاب خاص على هجمات البيجر"    وفد صيني في ديوان تنمية الوسط الغربي من أجل الجغرفة الرقمية    انتشار تقارير مغلوطة عن العثور على متفجرات في سيارة قرب حشد انتخابي لترامب    طقس الخميس: أمطار رعدية وغزيرة بهذه المناطق    نصف الواردات الغذائية حُبوب بقيمة 2.2 مليار دينار...لماذا لا تشجع الدولة على مزيد زراعة القمح والشعير والعلف؟    مع المتقاعدين .. القيم العام صلاح الدين الطويهري...مرت أيامي... بين حراسة مرمى كرة اليد والعمل على ترشيد التلاميذ !    قهر ومظلمة: صرخة الأم رشيدة الطرابلسي الرقيق إلى رئيس الجمهورية...وقعت ضحية متحيل له معارف في المحكمة يهددني بالطرد من منزلي !    مختارات لغوية وأدبية    حتى لا تتكرّر نفس الأخطاء : اختتمت المهرجانات الصيفية ... و ماذا بعد ؟!    "من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر"...الفة يوسف    عاجل: حكم ابتدائي ضد المترشح عياشي الزمال بسنة و8 أشهر سجنا    البحيرة.. القبض على شخصين بحوزتهما مخدرات معدة للترويج    الشّركة التّونسيّة للصّناعات الصّيدليّة تستأنف أنشطة تصنيع محاليل الحقن    بطولة النخبة الوطنية لكرة اليد (الجولة 2- مقابلات مؤجلة): النتائج والترتيب    أعلاها في صفاقس: كميات الامطار المسجلة اليوم    التوقيع على اتفاقيتي انجاز محطتين لانتاج الكهرباء من الطاقة الشمسية بسيدي بوزيد وتوزر    قفصة: 8 محاضر عدلية ضد عدد من أصحاب محلات بيع المواد الغذائية للاخلال بشروط حفظ الصحة خلال شهر أوت    مقابلة ودية - فوز الملعب التونسي على شبيبة منوبة 2-1    التهاب القصيبات الحاد للأطفال ...وزارة الصحة تقدت توصيات للأولياء    عاجل/ هذا ما تقرر في حق مسؤولة بلجنة التحاليل المالية تم ايقافها بعد عمليات تفتيش    الاحتفال بالذكرى 50 لرحيل مؤسس معلم دار سيباستيان ''جورج سيباستيان''    الدورة السابعة من تظاهرة بينالي الفن المعاصر "جو تونسي" من 9 أكتوبر إلى 9 نوفمبر    كاس السوبر الافريقي - تعيين الحكم المساعد التونسي خليل الحساني ضمن طاقم تحكيم مباراة الاهلي والزمالك    عاجل/ أمطار غزيرة اليوم وغدا: الحماية المدنية تحذّر    هيئة المحامين تنفذ وقفة احتجاجية داخل قصر العدالة ، وعميد المحامين يندد "بالتضييقات التي يتعرض لها أهل المهنة"    مشاركة 9 جمعيات في بطولة تونس للتجديف الشاطئي سرعة لسنة 2024    أبطال أوروبا: 28 هدفا في الدفعة الأولى والأرقام القياسية حاضرة    الحماية المدنية تسجيل 411 تدخل    الدورة الخامسة من تظاهرة الخروج إلى المسرح من 23 إلى 29 سبتمبر بمدينة الثقافة    مرور سنة على ادراج جزيرة جربة ضمن قائمة اليونسكو للتراث العالمي للإنسانية    قابس: المجلس الجهوي الجديد يعقد جلسته الأولى    الترجي الجرجيسي: الإدارة تجدد عقد نجم الفريق    سليانة: اتخاذ جملة من الإجراءات لمكافحة نبتة الشويكة الصفراء    إصطدام حافلة نقل عملة بالمكنين'' بتراكس''    اتحاد الفلاحة يدعو قيس سعيد الى مراجعة منظومة الحليب    عاجل/ شركة غولد أبوللو تكشف وتوضح بخصوص الأجهزة التي انفجرت في لبنان..    بنزرت:حجز حوالي 2,5طن من مادة البطاطا وإعادة ضخها بسوق الجملة للخضر والغلال بجرزونة.    مصر.. التيجانية تعلق على اتهام أشهر شيوخها بالتحرش وتتبرأ منه    ضربة مزدوجة للأمراض.. طبيب ينصح بخلط عشبتين    من تجاربهم: الشاعر التونسي عبدالله بنعمر...يتنازل عن مداخيل ديوانه لصالح التلاميذ المحتاجين !    مصر.. الإفتاء تحسم جدل قراءة القرآن بالآلات الموسيقية والترنم به    تونس تشهد خسوفا جزئيا للقمر ليل الأربعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المستثمرُ في النضالِ
نشر في الشروق يوم 19 - 08 - 2019

عرفته مناضلا فذًّا، عنيدًا،صلبًا، نشيطًا، لا يهدأ له بال ولا يفتر له عزم، يَعتصمُ، يَتظاهرُ، يحتجُّ، يُساندُ الفقراءَ والعمّال، ويتصدّى لجشع الأثرياءِ وقسوة الأعرافِ، يَسْلقهم بلسانه سَلْقًا : مصّاصودماء، استغلالِيُّون، مُسْتَكرِشونَ، انتهازِيُّون، متوحِّشون، لا رحمة في قلوبهم، ولا حدود لجشعهم، ولا شبع لطمعهم، ماتت ضمائرُهم، وشانَتْ سِيَرُهم وبشعتْ سرائرُهم، كلابٌ، ثعالبٌ، ذئابٌ، إلى غير ذلك من أَبشع النعوت وأَقْذعِ الشتائِمِ.
لونُ بشرته، ملامحُ وجهه، ضُمْرُ جسدِه، هيأةُ ملابسِه، نوعيَّةُ حذائِه، وعلامة سجائره، كلُّها تدلُّ على التزامه بقضايا المفقّرين والتصاقه بهمومِ المعذَّبين واندفاعه لنُصرة المستضْعفين. كان لا يُشَقُّ له غبارٌ في المعارك والمواقعِ لإنصاف مظلومٍ، ومواساة مكلومٍ، ومساندة محرومٍ.
كنا نلتقي في مناسبات للمطالبة بإرجاع مطرودين، أوللضغط على مماطلة مُؤَجرٍ حجب الأجور عن الكادحين، أَوللاعتراض على حكمٍ جائرٍ ضد مهضوم جناحٍ، أولشد أَزر مُضْربٍ عن الطعامِ، أولمعاضدة ثائرٍ.
كان في الصفوف الأمامية لا يكلُّ حلقه عن الهتاف، ولا يتعب من الوقوف تحت لظى الحر صيفا و وسط القرِّ شتاءً، كان أوّلَ الوافدين إلى مكان الاحتجاج وآخر المغادرين له، إن دَنْدَنَ فأَغانيه وأَناشيده كلها تُمجِّد نضال الثائرين وكدَّ الكادحين ومعاناةِ الفلاحين و تهجونهم كِبارِ المسؤولين، وقسوة رجال الأعمال والمشغِّلين. وإن استشهد بمقولة أوضرب مثلا فالمعنى دائما لتقديس الكسب بعرق الجبين وترْذيل تكالُبِ المترفين على المال المغمس ببؤس المنهكينَ.
ثمَّ غاب عن نظري، وانقطعت عني أَخباره قرابة أربع سنين، فقد بلغني أَنه ارتقى في نضاله ضد الاستغلال والاستبداد، صار يُمثِّل المعدمين والعمال والفلاحين في كامل الوطن ، يتفاوض بالنيابة عنهم، ويعقد الاتفاقيات ويُبْرِمُ التفاهمات باسمهم، ولا يجد وقتا للالتحام بهم في المظاهرات والوقفات والاعتصامات، فالرجل من اجتماعٍ إلى اجتماعٍ، ومن ندوةٍ على ندوةٍ، ومن نُزلٍ إلى نُزلٍ، بل سمعت أن صيته وسطوته تجاوزتا الحدود، وأَصبح يتنقل من مطارٍ إلى مطارٍ، ومن عاصمةٍ إلى عاصمةٍ ليُشاركَ في مؤتمر هنا، ولِيَرْأَسَ ملتقىً هناك، ولِيُساهمَ في حوارٍ هنالك.
إلى أن رأيته صدفة ذات يوم، يسير على القدمين، ولَئنِ امتلأ عوده، وبدأت بطنه بالبروز، وتفتح لون بشرته، وابيضَّت أَسنانه، و تأنَّق في لباسه، وتقَيَّفَ فإنني تعرفت عليه بسهولة، فقلت علّه لا يملك أُجرة تاكسي، أوفاته القطار، أوتعطبت سيارته، التي لن تكون أَحسن بكثير من سيارتي المتواضعة القديمة، فتوقفت حذوه واقترحت عليه إيصاله إلى الوجهة التي يُريد، لا بد أنه ذاهب إلى ساحة من ساحات النضال، ولن أتردد في إسداء مثل هذه الخدمة المتواضعة لمناضلين من طينته، رغم تململ زوجتي وأَبنائي الذين يُريدون العودة إلى المنزل سريعا بعد يوم شاق من العمل والدراسة.
قلت له : تفضل أيها «المناضل» أنا تحت أمرك لأحملك إلى أي مكان تُريد.
قال لي دون أن يشكر عرضي، على غير ما عهدته فيه : لا داعي إلى ذلك، سيارتي مركونة هناك وأشار إلى سيارة فخمة تُضاهي سيارات رجال الأعمال الأثرياء الذي كان يشتمهم ويمقتهم ويحنق عليهم ثم أَضاف إنني أُمارس رياضة المشي كما أَشار علي طبيبي لقد نصحني بالسير على القدمين لمدة ساعة كل يوم للتخلص من بعض الشحم وإذابة الكوليسترول، وأمرني بالابتعاد عن الأكل الدسم والدهنيات كاللحم والسمك وهجر الفواكه الجافة تماما كالبندق واللوز والفستق.
قالت لي زوجتي : أَصديقك مستثمر ؟
أَجبت : نعم.
قالت : وفي أي مجال يستثمر ؟ أَفي العقارات ؟ أم في الأوراق المالية ؟ أم في السياحة ؟ أم في السيارات ؟
قلت لها : لا. صديقي القديم، يستثمر في النضال.
قالت بتعجب : أَيوجد مستثمرون في النضال أَيضا ؟
قلت لها : بلى، لقد طرق الاستثمار جميع الأبواب كالدّين والمرأة الريفية والهوية. فكم من رجل دين تفرَّغ ونذر حياته للوعظ والإرشاد و الحث على الجهاد، كتب كتبا ونشر نشريات، ينهى عن التبرج، ويُحرِّض على الكفار، ويُحرِّمُ استهلاكَ سلعهم، ويُكفر إتباع طبائعهم فكون ثروة طائلة ومالا وفيرا يُلبِس به بناته من الثياب أَخفَّه وأَشفَّه ومن البنطلونات أَضيقها وأَشدّها التصاقا بتضاريس الجسد، يتجوّل في سيارة من آخر طراز صنعها الكفرة الفجّارُ، ويُدرس أَبناءه في بلدان المارقين الفاسقين، ويُقضي عطله في منتجعات «الغرب الفاسد». وكم من مناصرة للمرأَة الريفية اتخذت من الدفاع على الريفيات مهنة ولما ارتقت حتى بلغت أَعلى المناصب، وترفهت أَحوالها، شيدت منزلا فخما في حي راق لا تدخله ريفية إلا للعمل كمُعينة منزلية.
وكم من عروبيٍّ زوجته وأَبناؤه لا يتكلمون إلا الفرنسية أوالإنقليزية وهولا يجد حرجا في ذلك، بل يفخر به وكلما رطن ابن من أبنائه أَحد اللغات الحية بطلاقة في جلسة خاصة، تباهى به وامتلأ زهوا وحبورا.
ولوعددنا في تونس أَمثال هذه الكائنات لكتبنا عِوَضَ المقال مجلدات.
تنويه : أي تشابه مع الواقع ليس من محض الخيال بل حقيقةٌ فجّةٌ ومنتشرة كثيرا في تونس.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.