تعددت الأسباب التي تفسر إقبال التونسيين على الانتحار وتداخلت ولكن تبقى حالة الاكتئاب التي تتفشى يوما بعد يوم ببلادنا جراء انسداد الأفق وعدم وضوح الرؤيا نحو مستقبل اجتماعي واقتصادي وسياسي واضح في طليعة الأسباب. تونس «الشروق» ما الذي يجعل تلميذا راسبا يقدم على الانتحار وهو حال التلميذ المرسم بالسنة الثانية شعبة الآداب بالمعهد الثانوي الشاذلي عطاء الله بالقيروان اثر سماعه خبر رسوبه يوم الثلاثاء 25 جوان الماضي فهل هذا التلميذ هو الاول الذي رسب أم الاخير الذي سيرسب؟ ومن المؤكد ان اسباب اقدامه على الانتحار تتجاوز الرسوب لتصل الى اسباب أخرى اما مادية لان التلميذ سوف يعيد سنة أخرى بنفس المصاريف والتكاليف أو نفسية لانه سوف يشعر بالخجل من الفشل امام عائلته او اصدقائه او عاطفية لانه تعلق بالنجاح طيلة سنوات الدراسة ولايصدق يوما انه سوف يفشل ويرسب أو هناك اسباب اخرى قد يعلمها صاحبها وقد لايعلمها لانها تعيش في لا شعوره وتخرج عندما تتوفر لديها الفرصة كالفشل والهروب من المواجهة. ولكن مهما يكن من امر فان هناك الكثير من الاسباب المتداخلة التي دفعت هذا التلميذ وغيره ممن اقبلوا على الانتحار بعد الثورة واهمها الشعور بحالة من الاحباط وفقدان الامل في تغيير الحال من السيء الى الحسن او على الاقل الى المستوى المتوسط. وبعد الثورة انتظر التونسيون التغيير نحو الافضل لا نحو الاسوأ ولم يكن ايا منهم يعتقد أنّ الوضع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي سوف يصبح بهذا السوء وان امكانية الاصلاح سوف تصبح مستحيلة. ولايختلف اثنان في ان المجتمع التونسي هو مجتمع محب للحياة وباحث عن الرفاه وصبور على المتاعب والعراقيل في حال ان قدمنا له مؤشرا وحيدا على وجود بصيص أمل في غد افضل. الذكور أكثر بصورة عامة محاولات وحالات الإنتحار في تونس تراجعت خلال الثلاثي الأول من السنة الجارية لتبلغ 70 حالة مقابل 154 حالة في الفترة ذاتها من العام الماضي وفقا لتقارير المرصد الإجتماعي التونسي التابع للمنتدى التونسي للحقوق الإقتصادية والإجتماعية. وأظهر نفس التقرير أن فئة الذكور أكثر إقداما على خطوة الانتحار ومحاولات الانتحار حيث مثلوا نسبة 73 بالمائة (51 حالة) من الحالات المسجلة مقابل 27 بالمائة في صفوف الإناث (19 حالة). ولعل التفسير الاقرب لارتفاع نسبة الذكور مقارنة بالاناث اقبال هذه الفئة على ادمان الكحول والمخدرات فضلا عن قبول الفتاة بأي عمل حتى وان كان هشّا للعيش ومساعدة افراد العائلة بينما لا يقبل الذكور بذلك وهو مايعقّد المسائل اكثر. ويعتبر الشباب الذي تتراواح أعمارهم بين 25 و45 سنة الأكثر عرضة لظاهرة الانتحار حيث مثلت نسبة 60 بالمائة من الحالات المرصودة مع الإشارة إلى أن الثلاثي الأول لسنة 2019 لم تسجل أي حالة أو محاولة انتحار للفئة العمرية ما فوق ال60 عاما. وبلغ عدد حالات ومحاولات الانتحار في الفئة العمرية دون ال 15 عاما نسبة 14 بالمائة من الحالات المرصودة وهو اللافت للانتباه اذ مالذي يدفع طفلا صغيرا الى التفكير في إنهاء حياته؟ وبحسب التوزيع الجهوي لحالات ومحاولات الانتحار احتلت ولاية قفصة المرتبة الأولى ب11 حالة ومحاولة انتحار تليها ولايات القيروان (9) وتونس وسليانة (6). الاكتئاب أهم الاسباب بين استطلاع بي بي سي عربي للآراء في العالم العربي ان 4 من بين 10 تونسيين يعانون من الاكتئاب وذلك من خلال الاجابة عن سؤال «تجرفنا الحياة أحيانا ، وخلال الشهور الست الماضية كم مرة شعرت بالاكتئاب لدرجة انه لم يكن هناك أي شيء يسعدك؟ والاكتئاب الذي يصيب التونسيين له اسباب عديدة لها علاقة بضغوطات الحياة والعمل وارتفاع تكاليف المعيشة وانسداد أفق تحسين الاوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الى الافضل. طارق بلحاج محمد أخصائي في علم الاجتماع ل«الشروق» ..الانتحار ثقافة تغزو حياتنا ولغتنا قال الاستاذ والباحث في علم الاجتماعي طارق بلحاج محمد ل:«الشروق» متحدثا عن الانتحار :«لا تكاد تفتح وسيلة إعلامية إلا وتعترضك يوميا مفردة الانتحار: الانتحار شنقا،الانتحار حرقا،الانتحار غرقا،الانتحار السياسي،الانتحار الجماعي... وكأننا نعيش في محرقة وليس في دولة أو مجتمع معتبرا ان ذلك ليس بغريب على ثورة انطلقت بعملية انتحار ثم تتالت بعدها عمليات الانتحار وأشكاله لتشمل الأطفال والشباب والكهول والنساء والرجال والعزاب والمتزوجين كما توزعت عموما ب«عدالة» بين جميع جهات البلاد عوض أن تتوزع مفردات الأمل والتنمية والكرامة... واوضح ان ما فاجأ الباحثين أن الانتحار أصبح ظاهرة مرتبطة أكثر بشريحة شبابية جديدة ذات مستوى تعليمي مرموق وسجلها يكاد يكون خالياً من الاضطرابات النفسية والسلوكية، وبالتالي فمن الغباء اتهام خيرة ما عندنا من شباب وكفاءات بالمرض وعدم السواء النفسي.معتبرا إن الإحساس بالقهر والغبن هو الدافع والمحرك الأساسي لجل حالات الانتحار،فسبب الانتحار ليس دائماً سببا نفسياً بحتا أو سلوكا ذو خلفية مرضية، بل يمكن أن يكون مرتبطا بأوضاع اقتصادية واجتماعية وسياسية عميقة تستحيل معها القدرة على تحمل الضغوطات. واشار انه حين يلاحقنا ويلاحق هذا الشباب الحالم والمتعلم والحامل لدرجات تعليمية محترمة، الماضي بالتضحيات الجسيمة التي قدمها أملاً في العيش الكريم، وحين يقهرنا الحاضر عبر الإحساس بالعجز وقلة الحيلة بشكل يفقدنا احترامنا لذاواتنا واحترام الآخرين لنا، وحين يكون المستقبل مظلماً في عيوننا نظراً لعدم وجود بوادر انفراج للوضع القائم، لن تبقى لنا من خيارات كبرى لانجازها في الحياة. وذكر أن الانتحار هو نوعً من العنف الاجتماعي أو ردً عليه، لكنه عنف في أدنى درجاته، لأنه ليس موجهاً للآخر، بل موجه نحو الذات ولإيصال رسالة للآخر وللمجتمع وبالتالي تصبح حالات الانتحار عبارة عن الوجه الآخر للهجرة السرية، أو ما يعرف عند شباب تونس والمغرب العربي «بالحرقان»، وهو تعبير محلي ومجازي يعني الهجرة السرية، وحرق الحدود والإجراءات القانونية للسفر بما في ذلك من حرق للهوية الشخصية والجماعية التي أصبحت تمثل عبء على أصحابها. وإذا استحالت الحرقة عند الشباب يتحول الأمر الرمزي إلى فعل حقيقي بالحرق (إضرام النار في النفس)، لوضع حد لهذه الحياة.وبالتالي، ومذ الثورة إلى اليوم نلاحظ ارتفاع حالات الانتحار لدى الشرائح المهمشة و النخب المثقفة في البلاد وهذا نتاج عن فقدان الأمل في الحاضر والمستقبل والإحساس بأبدية الأزمة الراهنة و إلى تراجع مكانة التعليم في الحراك الاجتماعي وغياب فضاءات الوقت الحر وحالة التصحر الثقافي والسياسي وغياب المواقف والخطابات المطمئنة وعجز المجتمع السياسي بأحزابه وهياكله والمجتمع المدني بجمعياته وهيئاته ونقاباته عن احتضان خيرة الشباب وتبنى مشاغلهم بعيداً عن الشعارات والمزايدات. وخلص الى القول بانه مع مرور الوقت تدعمت مفردة الانتحار في قاموسنا وسلوكنا اليومي بفعل«النحر» وهو فعل موجه لنحر الآخر وقتله وشطبه من الحياة والوجود لأنه مختلف معنا في الموقف والرؤية. وحين تجتمع هذه الظاهرة (الانتحار) وهذا الفعل (النحر) فإننا نجد أنفسنا في صميم ثقافة الموت التي بدأت تخيم على مجتمعنا وثقافتنا ومزاجنا ولغتنا وهو أمر خطير يمكن الاستمرار فيه إلى ما لانهاية.