ما يزيد عن 26 طفلا يحاولون الانتحار شهريا وفق ما ورد بتقرير مندوب حماية الطفولة لسنة 2017 حيث تم تسجيل ارتفاع ملحوظ لحالات محاولات انتحار الأطفال وقفز عدد الأطفال الذين حاولوا إنهاء حياتهم من 195 حالة سنة 2016 الى 319 السنة الماضية بنسبة 78.1 بالمائة منها في صفوف الايناث والبقية في صفوف الذكور (249 طفلة و70 طفلا). حالات انتحار انتشرت وتفشت بين الأطفال لتتحول الى ظاهرة حيث أنهت لعبة الحوت الأزرق لوحدها حياة ما يزيد عن 10 أطفال.. فيما وضع عدد آخر حدا لحياتهم نتيجة الظروف الاجتماعية والعائلية فقرروا الهروب من الحياة الى الموت في حوادث مأسوية. ويعدّ الانتحار شنقا الطريقة الشائعة بين الاطفال حيث قضى اغلب المنتحرين نحبهم شنقا ولعل حادثة انتحار طفل في العاشرة من عمره بجهة باجة شنقا بسبب خلافات بين والديه الحالة الأكثر مأسوية حيث تفاقمت الخلافات بين والديه ما دفع به الى التوجه نحو بحيرة بالجهة وشد حبلا الى غصن شجرة. حادثة انتحار غريبة عرفتها جهة سجنان من ولاية بنزرت حيث وضع طفل العشرة اعوام حدا لحياته يوم 19 مارس المنقضي حيث لف حبلا حول رقبته وشنق نفسه بسبب الغيرة المفرطة من شقيقه المولود الجديد. طفل اخر انهى حياته بجهة غزالة من ولاية بنزرت حيث شنق نفسه بخيط معطفه. طفلة اخرى اقدمت خلال شهر مارس الماضي على الانتحار شنقا بمحل سكنى عائلتها بتطاوين الشمالية. وتعد حادثة انتحار أم وبناتها الثلاث من أبشع حوادث الانتحار التي عرفتها بلادنا والتي جدت خلال شهر ماي 2013 حيث قررت ام شابة تبلغ من العمر 32 سنة وضع حد لحياتها فاخذت أطفالها الثلاثة وهن ثلاث بنات تتراوح اعمارهن بين عامين وخمس سنوات ورمت بنفسها أمام القطار بباجة وبناتها بين يديها غير أن القدر شاء ان تموت الام وتفقد البنت الكبرى البالغة من العمر خمس سنوات ساقيها في حين اصيبت البنتان الاخرتين بجروح طفيفة. وتعود الأسباب التي تقف خلف هذه الفاجعة الى يأس الام بسبب الفقر وقلة ذات اليد مما جعلها عاجزة عن الإنفاق على أطفالها. أزمة دولة ومجتمع.. اعتبر الباحث في علم الاجتماع طارق بالحاج محمد أن ظاهرة انتحار الأطفال ظاهرة صادمة للوجدان الفردي والجماعي فهي ظاهرة تمثل نتاجا لتراكم ظروف مهددة لعالم الطفولة وحرمته ومصادرة لحقهم في العيش في مناخ سليم يساعدهم على النمو النفسي والبدني الطبيعي والعادي،كما أنها تعكس أزمة دولة وأزمة مجتمع.. دولة غير قادرة على حماية مواطنيها الذين يعانون من هشاشة فكرية ونفسية واجتماعية ومجتمع غير قادر على تامين الاستقرار النفسي والاجتماعي لأطفاله وغير قادر عن توفير الحلم بغد أفضل ونشر ثقافة الحياة. جيل مهدد.. بين الباحث في علم الاجتماع طارق بالحاج محمد أن جيلا برمته يتكون اليوم من أطفال وشباب يجد نفسه ضحية ظروف اقتصادية واجتماعية وسياسية هشة وخارج منظومات الحماية والرعاية والمرافقة والتأطير.. جيل يواجه وحيدا الحياة بصعوباتها وتعقيداتها ويواجه المجتمع بكل قسوته وأمراضه، فليس من الغريب إذن أن يجد نفسه إما ضحية أحد وضعيات التهديد أو أحد المتسببين فيها. ظواهر ما فتئت تتسع يوما بعد آخر مثل التحرش الجنسي والاغتصاب وزنا المحارم والدعارة والادمان... لتتوج في النهاية بانتحار أطفال لم يتجاوزوا بعد مرحلة اللعب ولم يكتشفوا بعد كنه الحياة. ظاهرة يلفها الصمت والإنكار والنسيان واللامبالاة وكأنها تحدث في كوكب آخر في حين أنها تحدث أمامنا وتهدد جيلا برمته وهو جيل الأطفال والشباب حيث يمثل الأطفال حوالي عشر الذين انتحروا أو حاولوا الانتحار. الانتحار.. ثقافة ووفق بالحاج محمد فإنه لا تكاد تفتح وسيلة إعلامية إلا وتعترضك يوميا مفردة الانتحار.. الانتحار شنقا،الانتحار حرقا،الانتحار غرقا،الانتحار السياسي، الانتحار الجماعي... وكأننا نعيش في محرقة وليس في دولة أو مجتمع وهذا ليس بغريب على ثورة انطلقت بعملية انتحار ثم تتالت بعدها عمليات الانتحار وأشكاله لتشمل الأطفال والشباب والكهول والنساء والرجال والعزاب والمتزوجين كما توزعت عموما ب»عدالة» بين جميع جهات البلاد عوض أن تتوزع مفردات الأمل والتنمية والكرامة... إن الانتحار هو نوع من العنف الاجتماعي أو رد عليه، لكنه عنف في أدنى درجاته، لأنه ليس موجهاً للآخر، بل موجه نحو الذات ولإيصال رسالة للآخر وللمجتمع وبالتالي تصبح حالات الانتحار عبارة عن الوجه الآخر للهجرة السرية، أو ما يعرف عند شباب تونس والمغرب العربي «بالحرقان». مع الوقت تدعمت مفردة الانتحار في قاموسنا وسلوكنا اليومي بفعل «النحر» وهو فعل موجه لنحر الآخر وقتله وشطبه من الحياة والوجود لأنه مختلف معنا في الموقف والرؤية وحين تجتمع هذه الظاهرة(الانتحار) وهذا الفعل (النحر) فإننا نجد أنفسنا في صميم ثقافة الموت التي بدأت تخيم على مجتمعنا وثقافتنا ومزاجنا ولغتنا وهو أمر خطير يمكن الاستمرار فيه إلى ما لا نهاية. جيل متمرد ويائس.. نحن اليوم إزاء جيل يعاني حالة من الانفجار في الآمال والتطلعات والأحلام وفق الباحث طارق بالحاج محمد مضيفا أن هذا الجيل تبدو له العائلة عاجزة أو مقصرة في تحقيق هذه الآمال وحيث تعجز المدرسة عن تزويده بالمعارف والمهارات اللازمة لمواجهة الحياة ويقع فريسة للإدمان وشبكات الجريمة المنظمة مما يجعل الأطفال فريسة سهلة للسقوط في هاوية الانتحار. فحيين يلاحقنا ويلاحق هذا الطفل اليافع الماضي بالتضحيات الجسيمة التي قدمتها الأجيال التي سبقته أملاً في العيش الكريم دون جدوى، وحين يقهره الحاضر عبر الإحساس بالعجز وقلة الحيلة بشكل يفقده احترامه لذاته واحترام الآخرين له، وحين يكون المستقبل مظلماً في عيونه نظراً لعدم وجود بوادر انفراج للوضع القائم، فهل تبقى له من خيارات كبرى لانجازها في الحياة خصوصا مع هشاشته النفسية والفكرية والعاطفية؟ من المسؤول؟ تتراوح هذه المسؤولية المجتمعية بين الدولة والإعلام والمجتمع المدني والأسرة فعلى الدولة سن القوانين اللازمة لتنظيم القطاعات التابعة لها بحيث تكون حامية للطفولة عبر توفير الخدمات النفسية والاجتماعية اللازمة للإحاطة بالطفولة في هذه الحالات بحيث تصبح هذه الخدمات قارة ومتوفرة لمستحقيها. كما يلعب الاعلام دورا أساسيا سواء باحترام اخلاقيات المهنة التي تخص الطفولة بإجراءات وشعارات وإعلانات معينة متعارف عليها عالميا،أو عبر تقديم المعارف والثقافة السيكولوجية اللازمة التي تنمي مهارات التعامل مع الأطفال في مثل هذه الوضعيات والتي تقدم إلى كل المشرفين على الفضاءات التي يؤمها الطفل ينتفع بها الأولياء والمنشطون والمربون... كما أن للمجتمع المدني دور مهم في هذه العملية يتراوح بين رقابة الدولة والإعلام وتحفيزهم على أداء دورهم وكذلك تأطير الأطفال ورعايتهم وتربيتهم على ثقافة المواطنة والمشاركة وتحمل المسؤولية بما يعزز حصانتهم النفسية. ما يعيق هذه المقاربة الشمولية هو تشتت مجهودات المتدخلين في هذا المجال نظرا لغياب ثقافة التعاون والتشارك والعمل ضمن فريق بحسن أو بسوء نية. نحن إذن في حاجة إلى جعل هذه القضايا قضايا رأي عام وقضية مجتمع، ونحن مدعوون إلى توحيد جهودنا من أجل رسم إستراتيجية وطنية بعيدة المدى للتصدي لهذه الظواهر وإخراجها من دائرة الصمت الفردي والاجتماعي ومرافقة ضحاياها المحتملين وحمايتهم من أنفسهم ومجتمعهم ونشر ثقافة الحياة لديهم.