أكدت الدكتورة نائلة السليني أن أساتذة جامعة الزيتونة الذين يتحدثون بأسم الدين ويهاجمون مشروع قانون المساواة في الإرث ينطلقون من مقاربة إيديولوجية وليست علمية. تونس «الشروق»: تتحدّث الدكتورة نائلة السليني المتخصصة في التفسير القرآني والعلاقات الأجتماعية بصوت عال في قضايا الدين والفقه وتهدم بنظرة علمية ما يعتقده عدد كبير من الإسلاميين ومناصريهم بأنها مسلمات لا يجوز مناقشتها. في هذا الحوار تتحدث الدكتورة نائلة السليني ل«الشروق» عن مشروع المساواة في الإرث وعن إمكانية اندماج الإسلاميين في التجربة الديمقراطية. تتابعين ردود الفعل حول مشروع قانون المساواة في الإرث لأساتذة في جامعة الزيتونة يتحدثون باسم الدين كيف تقيمين هذه الردود؟ تقييم هذه المواقف لا يستقيم إلاّ إذا قاربناها من منطلقات غير علمية.. فقد بان بالكاشف وشهدت عليهم ألسنتهم أنّهم لا يفقهون من علوم الفقه شيئا، نفس المادة والتبريرات يمرّرونها بينهم حتى علاها الاهتراء. وصدّقني كلّما ظهر منهم اسم جديد تعاملت معه بصفة موضوعية، آملة أن أعثر على معرفة بالنصوص القديمة أو على مخارج تشدّني حتى وإن كنت أختلف معها، لأنّي أرى أنّ اختلافنا هو اختلاف «تنوّع» كما يقول القدامى لا اختلاف «تضاد». لذلك أجبت في المرّة الأولى لأنّي ظننت أنّهم يتحدّثون عن «قطعية الدلالة في النصّ القرآني» وهم يدركون ما هو النصّ القرآني، ولكن عندما وجدتهم في غيّهم ماضين يئست وعلّقت حبائل الامال، لأنّي عاجزة عن إقناعهم إيديولوجيا، فأنا والإيديولوجيا خطّان متوازيان لن يلتقيا. منذ القرن الثامن عشر هناك دعوات ومحاولات لتجديد قراءات النص الديني لكن مازالت ثقافة النقل هي السائدة هل فشل مشروع التحديث في العالم العربي؟ لا لم يفشل، ولكن المحاولات تقتضي رصانة وصبرا على النصوص، لأنّ إنشاء علاقة «ثقة» بينك وبين النصّ هي عملية صعبة، واستنطاقه يتطلّب لين معاشرة حتى يحكم الباحث الآليات التي تنسج هذه النصوص، ولذلك أتعجّب ممن يغيّر مساره البحثي ليعلن أنّه مشتغل بنصوص التراث الديني، في الحقيقة هو في بداية اكتشاف هذه النصوص التي تتكتم على أنساق دلالاتها ولا تمنحها سوى لمن اعتركها وعرف أفخاخها. واليوم أكاد أقول إنّ تجديد المقاربة في قراءة النصّ الديني بدأ يدرك معالم طريقه، وذلك بتشريك الناس في هذه الهواجس، فلم يعد الباحث جالسا في صندوق عاجي وإنّما عليه أن ينزل إلى البنى العميقة في المجتمع حتى يقدر على محاورة مشاغل القدامى بمشاغل الحاضر فيتبيّن له ذاك الخيط الرفيع الذي يربط الماضي بالحاضر، ويستطيع أن يستنتج أنّه خيط ثقافي بالأساس، ولا علاقة له بالمقدّس. فاليوم الذي تبلغ فيه النخب المثقفة درجة اقناع الناس أن المقدّس شيء محفوظ ومنغلق على نفسه وأنّ جلّ مصنّفات التراث التفسيرية والفقهية ليست سوى فهم مخصوص ونتاج تأويلي حافظ على انسجام المجتمعات في فترات مخصوصة، وهي لم تعد تعنينا بل وقاصرة عن استيعاب مشاغلنا، يوم نبلغ هذه المرحلة تسهل عملية المقاربة الاجتهادية وتجديد النص الديني. لذا تجد النخب المثقفة بحقّ قد تجاوزت الحدود الجغرافية والسياسية وأنشأت خطابا تحديثيا، أقول هذا الكلام وأنا استحضر نماذج من المجتهدين أمثال إبراهيم البليهي من السعودية، مثلما استحضر اجتهادات بعض الصحف الالكترونية التي تخصّصت في مقاربة النصوص الدينية مثل صحيفة « مرايانا» المغربية، وأستطيع ان أقول اليوم إنّ للمفكّر أدوات كان يفتقدها، وعليه توظيفها حتى يقدر على التعريف بمقارباته وتعديلها عن طريق النقاش. بعض الأحزاب التي تدعي التقدمية وانتصارها للمرأة لم تتحمس كثيرا لقانون المساواة وهناك من اعتبره في غير وقته ما هو رد الدكتورة نائلة السليني ؟ لو أدركت هذه الأحزاب وخاصّة منها ذات الاتجاه الحداثي أو اليساري أنّ من ابتدع هذا التعليل هي طوائف الرجعية الظلامية، وكان هذا الردّ يرفع منذ بداية القرن العشرين كلّما أثيرت مسألة تتّصل بالمرأة ودونيتها: مثل المطالبة بمنع تعدّد الزوجات، أو حقّ المرأة في العمل، أو وَلايتها على أبنائها، وكان هؤلاء يرفعون في وجه المطالبين هذه الورقة الشبيهة بالورقة الحمراء عند حكم المباراة، وحجتهم أنّ الشعوب العربية مازالت تعاني الاستعمار وهيمنة الصهيونية والتخلّف، وعلى المرأة ان تؤجّل مثل هذه المطالب التي تعتبر من قبيل « الكماليات». لكن، أقول لهؤلاء :لا نجاة لنا إلاّ بالنظر في هذه القضايا. و إن اعتبر أنّ للجسم الاجتماعي يَدَين فقد غاب عنهم أن المرأة هي تلك اليد الثانية التي ظلّت عالقة في رقاب هذه المجتمعات عبر العصور.. وإن كان للجسم عينان فقد تعوّدوا على النظر إلى حاضرهم بعين واحدة وأغمضوا عينهم الأخرى بدعوى الحفاظ عليها ولذلك كانت حلولهم عبر العصور « عوراء» فالمجتمعات لا تنهض سوى بكامل مكوّناتها، والفرد امرأة كانت أو رجلا هو أهمّ عنصر في بناء المجتمع، ولا تستقيم أحوال المجتمعات إلاّ بعمل جميع مكوّناته. هناك عدد من الجامعيات التونسيات تخصصن في تجديد الخطاب الديني هل نحن أمام مدرسة تونسية بزعامة الجامعيات نائلة السليني أمال قرامي زهية جوير وألفة يوسف...؟ لا أنا ضدّ فكرة نسوية المقاربة الدينية، فأنت سيدي تذكر أسماء جيل تدرّب على يدي شيخ، وصاحب مدرسة في تجديد المقاربة الدينية، وهو الأستاذ عبد المجيد الشرفي، وإلى جانب من ذكرت هناك أسماء لها دور وإضافة، لكن لعلّ من أسميتهنّ احتكرن أكثر المشهد الإعلامي، والسبب بسيط لأنّنا نمرّ بصعوبات و بمواجهات تعمل على تقويض بنيتنا الاجتماعية، وإن انتفضنا أمام هذه المخاطر فلأنّنا نساء وواجبنا يقتضي محاربة هؤلاء بالكلمة العلمية الثاقبة، وإن حفظ لنا من جهد فهو أنّنا استطعنا أن ننقل العلم « المخصوص» إلى العامّة وبسّطناه ثمّ حوّلناه إلى شأن عادي وليس له أن يحفظ بين الكتب. وتلك مشكلة من يخالفنا لأنّه ثبت عجزه عن مواجهتنا بالكلمة الثاقبة بل اكتفى بموقع التكرار المملّ لما لُقّن فكان كلامنا حيّا بينما ظلّ حديث هؤلاء عبارة عن ألفاظ أفرغت من معانيها، جوفاء. صعد الإسلاميون إلى الحكم في تونس وليبيا ومصر واليمن لكنهم فشلوا ودخلوا في مواجهة مباشرة مع المجتمع هل كان صعود الإسلاميين للحكم مرحلة لابد منها للقطع مع تجربة الإسلام السياسي؟ وهو كذلك، فأنا مقتنعة أنّ صعود الإسلاميين إلى الحكم مسألة أساسية، وأعلم انّها محنة صعبة بالنسبة إلى المجتمع لكن لن يستطيع هذا المجتمع أن يقطع مع هذه الظاهرة إلاّ بمواجهتها، ففي عهدي بورقيبة وبن علي كان المجتمع شبه مقطوع عن حقيقة هؤلاء الإسلاميين، ولم يحفظ لهم سوى قمع الحاكم لهم، والسجون... بينما كان يجهل تماما الأسباب الكامنة وراء محاكمتهم. لكن منذ 2011 تفطّن المجتمع بعد أن عاشرهم إلى مشروعهم السياسي والاجتماعي، وأدرك طيلة هذه السنوات أنّ خطرهم كامن في صمت ويمرّر في العروق، كما أدرك أنّهم لا يملكون مشروعا إصلاحيا كان أو تحديثيا، وإنّما غرضهم افتكاك الحكم لا غير، وأنّ وعودهم هي عبارة عن شمروخ ويفتقرون إلى خبراء عكس ما يسوّقون له. لذا فإنّ المرور بهذه التجربة مسألة حتمية، وأعترف أنّها في البداية كانت محفوفة بالمخاطر، لأنّها تضع المجتمع على محكّ التجربة.. لكن والحمد لله أدركنا أنّ مجتمعنا محصّن. كيف ترين مستقبل تونس وهل يمكن إدماج الإسلاميين في العملية الديمقراطية ومامدى قدرة حركة النهضة على أن تكون « تونسية « كحركة محافظة غير إخوانية ؟ إدماج الإسلاميين في العملية الديمقراطية، كما نراها نحن، هي عملية شبه مستحيلة، وتفويت في وقت ثمين، والسبب بسيط لأنّ هؤلاء غير واعين بمعاني الديمقراطية التي يجب أن تعيشها المجتمعات، مثل الاعتقاد في المساواة التامة بين المرأة والرجل وما ينتج عن هذا الاعتقاد من تشريعات مستلهمة من روح القوانين الدولية، ولو رأيت إشارة أمل في مواقفهم لكنت متفائلة، انظر مثلا موقفهم من اتفاقية السيداو، إنّه لا يتجاوز حدود تكرار موقف الإخوان الذي رسموه في بيان أرسل إلى الأممالمتحدة ليعتبروا أنّ الأمّة الإسلامية وبخاصّة المرأة يجب أن تكون لها قوانين خاصّة بها ولوحدها، ولا يمكن بأيّ حال اعتبار المرأة المسلمة مثل غيرها من نساء العالم. هؤلاء أصيبوا بمرض مزمن، أكل أجسادهم وأفكارهم وتحكّم في نواياهم، وهذا المرض اسمه «المرأة»، واليوم الذي يعزمون فيه على معالجة أنفسهم منه فعندئذ لكلّ حادث حديث. لذا أقول: إنّ مستقبل تونس لن يكون مشرقا مادام الإخوان يقبضون على أنفاسها، وهذا لا يعني إقصاءهم أو طردهم، وإنّما يجب على المجتمع أن يتحلّى بجرأة قليلة تسمح له بأن يعزلهم عن مواقع القرار ليعيشوا مواطنين مثل غيرهم، ولهم أن يواصلوا حلمهم بالخلافة الضائعة دون عرقلة تقدّمنا، شأنهم في ذلك شأن بعض الطوائف أو الفرق المنغلقة على نفسها بأوروبا او أمريكا، ولا تؤذي أحدا. ويوم يقتنعون أن مشروعهم زنيم في مجتمعنا عندئذ ستعرف تونس الاستقرار والسكينة الدكتورة نائلة السليني الراضوي في سطور متحصلة على شهادة دكتورا الدولة في التفسير القرآني والعلاقات الاجتماعية إلى القرن الثامن للهجرة، أستاذ تعليم عالي بجامعة سوسة. مستشارة دولية ببرنامج الأممالمتحدة الإنمائي، وعضو في الفريق المركزي لتقرير التنمية الإنسانية « نحو نهوض المرأة في الوطن العربي» 2005، برنامج الأممالمتحدة الإنمائي، وعضو في الفريق الاستشاري لتقرير المعرفة العربي الأوّل، مؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم، دبي 2009. شاركت في تحرير تقرير «التربية على المواطنة في الوطن العربي» إشراف مركز كارنغي، ببيروت، 2011؛ و في تحرير تقرير « المرأة وصنع القرار في الدول العربية « إشراف الإسكوا، بيروت 2011. من أهمّ منشوراتها: وضع المرأة في الفقه المالكي، 1995، الفقيه على مفترق القراءات، منشورات مؤسسة الملك عبد العزيز آل سعود، الدار البيضاء، 1999؛ قضايا الأسرة في مصنّفات التفسير: المناكح، الرضاع، المواريث، المركز الثقافي العربي، بيروت، 2003؛ المرأة والعنف المشروع: قراءة في الفتاوى المعاصرة، تونس2008. إلخ. ...