إذا كان الفقر يقتل... والبؤس يقتل... والخصاصة تقتل... والحرمان يقتل... والبطالة تقتل... والتهميش يقتل... والإحباط يقتل... والتشاؤم يقتل... فإن السعادة أيضا تقتل... وكما يحدث في شعوب ومجتمعات كثيرة حيث يقرّر الكثيرون وضع حدّ لحياتهم البائسة وينتحرون من فرط التعاسة والتشاؤم، يحدث أن ينتحر الكثيرون في المقابل من فرط السعادة... أشخاص يولدون في النعيم ويكبرون في بحبوحة من العيش... تهرول إليهم الدنيا ويتهاطل عليهم الرخاء والفرح وكل مقومات ومكونات السعادة فيصابون هم أيضا بالإحباط... كأن حياتهم تصبح بلا معنى، بلا روح، بلا تحديات وبلا رهانات لتفقد طعمها وتتحول الى كابوس من نوع آخر... كابوس يصيب بالقرف والتبرّم هو الآخر... ويجعل الحياة بلا هدف... وحياة بلا هدف هي حياة في حكم المنتهية... وعند تلك النقطة يقرّر الإنسان السعيد الغارق في النعيم أن يضع حدّا لحياته وينتحر... وحين نقرأ وصيته نجده قد كتب «انتحرت... من فرط السعادة». * * * الحكاية ليست مجرّد مزحة ولا مجرّد خبر عابر مركون في صفحات المنوعات... نقرؤه ونمرّ عليه وفي أحسن الحالات نكتفي بإطلاق بسمة مكبوتة من هؤلاء «المجانين» الذين يهربون من جنّات النعيم الدنيوي ويقرّرون في لحظة انتشاء بخمرة الرخاء والنعيم أن يتركوا كل شيء وراء ظهورهم ويرحلوا... حكاية الانتحار من فرط السعادة هذه تقيم الدنيا في السويد منذ فترة ولا تقعدها... بعد أن قرّر المئات من المواطنين السويديين وضع حدّ لحياتهم لهذا السبب. وقد أصبحت الظاهرة محيّرة بعد أن وصل عدد المنتحرين من فرط السعادة سنة 2017 الى أزيد من 1500 مواطن، ليخلف رحيلهم المدوّي بواسطة الانتحار لهذا السبب العجيب أسئلة حارقة وحائرة مازال علماء الاجتماع والنفس والسياسيون يجتهدون لإيجاد تفسير أو تبرير لها. فالمجتمعات والفقيرة منها تحديدا دأب العديد من المواطنين فيها على الانتحار بعد أن تكون قد عصفت بهم رياح الاحباط والتشاؤم... وبعد أن تكون آفات الفقر والتهميش والحرمان قد حوّلتهم الى كائنات «ميتة مع تأجيل التنفيذ».. فيعمدون في لحظات ضعف وهزيمة الى وضع حدّ لحياة بائسة يائسة يعمّها السواد وتنسدّ فيها كل أبواب الأمل والرجاء... فيقرّرون الهروب الى العالم الآخر عالم الموت والسكون الأزلي طالما أنهم لم يجدوا لهم مكانا في هذا العالم الصاخب الشرس الذي يتحول الانسان فيه الى مجرّد رقم... لا يتعدّى وجوده دفاتر الإحصاء والحالة المدنية... أما مشاعره وأحلامه وآماله وطموحاته ومشاكله ومصاعبه فتلك «قنابل» ينغلق عليها ويضيق بها صدره... فلا يجد سبيلا الى تلبيتها إلا بالرحيل. * * * وبالمحصّلة فإن النقيضين يقتلان. آفات الفقر والحرمان والتهميش والإحباط تقتل... والسعادة المفرطة تقتل... وكما أن الإنسان في الدول الغارقة في أوحال التخلف يهرب من واقعه المرير الى وضع حدّ لحياة لا أفق لها ولا نقاط ضوء فيها، فإن الانسان في الدول المتخمة بنعيم ولذائذ الدنيا يمكن أن تدفعه السعادة الى حياة بلا معنى وبلا هدف فيقرّر الهروب منها ووضع حدّ لها... والحكمة هنا أن تبحث الضفتان: ضفة الفقر والبطالة والتخلف والمديونية وضفة التقدم وبحبوحة العيش والرخاء والنعيم اللامحدود عن نقطة التقاء... نقطة تمكّن الدول المتخلفة من صناعة جنّة نعيم ولو في الحدود الدنيا لمواطنيها... جنّة تشدّهم الى الحياة وتشدّهم الى بلدانهم ليشتغلوا فيها ويجعلوا لحياتهم معنى يحول دونهم والانتحار إما شنقا وإما قفزا في البحر... وتمكن المواطنين المتخمين الضجرين من فرط السعادة من أن يجدوا لحياتهم معنى من خلال المساعدة على إيجاد جنّات نعيم تشبه جنّاتهم لدى شعوب ومجتمعات كثيرة يموت فيها الناس باليأس والإحباط. * * * كلمة أخيرة: الى كل مواطن سويدي ملّ حياة الرّخاء والنعيم ويفكر في الانتحار من فرط السعادة، هناك في هذا الكون ما يستحق الحياة... وذلك بالمساعدة على زرع الأمل لدى البؤساء... وزرع الأمل لدى الناس هو أسمى وأرقى معاني الحياة... معان تعطي للحياة كل مضامينها وكل قدسيتها... ووقتها لن يموت مستقبلا أي مواطن في أية بقعة من الدنيا... من فرط السعادة.