كانت نشأة علم اصول الفقه لاجل ضبط مواقع الخلاف بين امصار الفقهاء التي تأسست بفقهاء الصحابة رضي الله عنهم ، وتكون فيها فقهاء التابعين ثم تكون فيها فقهاء تابعي التابعين الذين كان بهم استقرار المذاهب والافصاح عن القواعد الاصولية التي كان الفقه يسير عليها من قبل بدون ان يفصح عنها الفقهاء .فكانت نشأة علم اصول الفقه لضبط مواقع الخلاف ، ولبيان نتائج الاختلافات بين الفقهاء في قواعدهم بما يبدو في الفروع التي تختلف فيها فتاويهم لاجل الاختلاف فيما بينهم في الاصول الذي هو يرجع الى انواع الادلة والى الطرق المختلفة لاستفادة الاحكام التفصيلية من تلك الادلة الاجمالية . وبهذا الوضع الذي وضع به علم اصول الفقه ضابطا للخلاف مبرزا للتمايز بين المذاهب والتباين بين الطرائق الاستدلالية للفقهاء ومؤصلا في قواعد عامة ضابطة اسباب الخلاف الذي كان جاريا بين الفقهاء فيما افتوا فيه من الفروع سواء اكان ذلك في الجيل الاول ام في الجيل الثاني ام في الجيل الثالث . وبهذه النشأة التي نشأ بها علم الاصول ، وكان ظهوره الاتم على يد الامام الشافعي رضي الله عنه . فبذلك تكونت المذاهب في معناها الخاص واصبحت مذاهب ذات مبادئ مضبوطة وذات قواعد مقررة هي التي نعبر عنها بالاصول . وهي التي تتناول مواقع الاحكام على سبيل الاجمال ويستخرج منها الفقهاء الاحكام بمحالها على وجه التفصيل . ومن هذا التكون الذي تكون به علم اصول الفقه ، ونشأت به المذاهب في معناها الخاص تكون الاجتهاد المذهبي الذي نعبر عنه بالاجتهاد المقيد ، والذي كان عمل الفقهاء فيه اجتهادا تفريعيا لا اجتهادا تأصيليا . فاذا كان مالك والليث بن سعد رضي الله عنهما قد اختلفا في ان عمل اهل المدينة يكون حجة او لا يكون حجة ، فان مالكا رحمه الله تعالى بنفسه قد اختلف قوله عن قول اصحابه وتلاميذه ، واختلف قول اصحابه وتلاميذه فيما بين بعضهم وبعض في مسائل فرعية كثيرة بحيث انه يعز ان توجد مسألة في الفقه المالكي ليست محل اختلاف بين مالك وواحد من اصحابه من ابن القاسم او ابن وهب او غيرهما . فكان هذا الاختلاف الذي جرى بين ايمة المذاهب وبين اصحابهم كما جرى بين مالك واصحابه وكما جرى بين ابي حنيفة واصحابه وكما جرى بين الشافعي واصحابه الربيعي والبويطي والمزني وغيرهم ، كان خلافا تفريعيا لا تأصيليا . فكان هؤلاء الفقهاء لا يختلف واحد منهم عن امامه الاول في حجية ما يرى امامه حجيته فلم يكن ابو يوسف ولا محمد بن الحسن يختلفان عن ابي حنيفة في ان الاستحسان حجة وان عمل اهل المدينة ليس بحجة ولم يكن ابن القاسم ولا اشهب ولا علي بن زياد يختلفون عن مالك في ان عمل اهل المدينة حجة وان الاستحسان ليس بحجة وان قول الصحابي ليس بحجة . ولذلك اعتبر الفقهاء في هذا الدور فقهاء تفريع كما قلنا او مجتهدين مقيدين فكانوا باحد الاعتبارين مقيدين اي انهم كانوا مقلدين في الاصول التي قررها ايمتهم من حيث الحجية وعدم الحجية وكانوا مستقلين في الفروع بحيث انهم كانوا في الاستدلال بتلك الاصول وفي طرائق الاستدلال وفي الاجتهاد في ادراج الواقعة الجزئية تحت القاعدة الكلية وتحت المنهج الاستدلالي الذي سار عليه امامهم من قبل ، كانوا مستقلين . ولذلك جمعنا بين الوصفين فسميناهم مجتهدين باعتبار وسميناهم مقيدين باعتبار اخر لان المجتهد الحقيقي لا يمكن ان يكون مقلدا فهم انما كانوا مجتهدين في الفروع مقلدين في الاصول . وهذا فيما يظهر هو المعنى الذي يحاوله كثير من فقهاء المذاهب حين يدعون رد الاقوال المخالفة لاصحاب امام من الايمة الى قول ذلك الامام بنفسه كما يقول فقهاء الحنفية ، ما من قول لابي يوسف او لمحمد الا وهو قول لابي حنيفة فان هذا قد يحمل على ان كل ما قاله ابو يوسف هو موافق لكل ما قاله ابو حنيفة في جميع الجزئيات . وهذا امر يدفعه ويناقضه ان ابا يوسف بنفسه او ان محمد بن الحسن بنفسه يذكر خلافه لابي حنيفة ولا يدعي انه روى ذلك عن ابي حنيفة ولكنه يرد على ابي حنيفة ردا ، كما نقف على ذلك فيما اورده الامام الشافعي رضي الله عنه في كتاب « الام « في الكتاب الذي عنونه بكتاب « اختلاف العراقيين « يعني ابا حنيفة وابن ابي ليلى ، ونقله عن ابي يوسف فكان ابو يوسف في غير مسألة من المسائل يتبع قول ابي حنيفة في مخالفة ابن ابي ليلى بانه يرى ما رآه ابن ابي ليلى . ونجد محمد بن الحسن في كتبه الكثيرة ولا سيما في كتاب ظاهر الرواية ينقل قول ابي حنيفة وقول ابي يوسف ويعقب عليهما بالرد ويبين انه يقول « بخلاف ما قاله ابو حنيفة « ولذلك فاذا قالوا : ما من قول لابي يوسف او لمحمد الا وهو لابي حنيفة فمعنى ذلك انه ما من قول لابي يوسف يخالف ابا حنيفة الحكم الفرعي الا وهو راجع الى قول لابي حنيفة في الحجية الاصلية التي بمقتضاها تكون ذلك القول على الصورتين المختلفتين في تطبيق حجية ما قال ابو حنيفة بحجيته وقلده ابو يوسف او محمد في تلك الحجية . يتبع