نهض عادل متثاقلا بعد ليلة لازمه فيها السعال، تناول فطور الصباح وأخذ أدوات الدهن وهمّ بالخروج نحو عمله، فجأة سقطت عبوّة الدهن من يده ولوّثت ملابسه وأرضيّة المنزل. جنّ جنونه فكان عليه أن ينظّف أرضيّة البيت ويغيّر ملابسه قبل أن تعود زوجته من منزل والديها لأنّها أخبرته أنّها ستعتني بوالدتها المريضة ليلا وتعود في الصباح الباكر. أنهى عادل عمليّة التنظيف وتناول أدوات العمل وغادر المنزل متعجّلا. وصل إلى المنزل الذي سيعمل فيه فوجد مشغّله ينتظره غاضبا، فقد اتصل به كثيرا ليستفسره عن سبب التأخير، لكنّ عادل كان قد نسي جواله في المنزل. شرع عادل يحضّر الدهن الذي سيطلي به سقف المنزل ثمّ صعد السلّم ولا يدري كيف التفت ساقه اليمنى بالساق اليسرى فانقلب هو سطل الدهن وسقطا على الأرض ومن حسن حظه أنّه لم يصب بأذى لكنّ الدهن غطى كامل وجهه وجسده. فزع مشغّله لرؤيته على تلك الحال وحاول جاهدا أن يمسح ما علق بوجهه من دهن قبل أن يجفّ. أمّا عادل فلم يدر ما الذي حصل له. غيّر ملابسه بسرعة ومسح أرضيّة المنزل وأعاد خلط الدهن الذي سيطلي به السقف ثمّ صعد السلّم متمهّلا خشية السقوط مرّة أخرى. اطمأنّ إلى توازنه وشرع يطلي السقف بهمة ونشاط. أنهى عمله بسرعة وإتقان. وانتظر أن يجفّ الدهن على السقف كي يعيد دهنه مرّة ثانية كي يبدو أكثر جاذبيّة. واصل عمله ولم يبق له إلا الركن الأخير في السقف وكان الدهن قد انتهى. نزل من السلّم رويدا رويدا وأعاد خلط سطل آخر من الدهن وصعد مرة أخرى كي ينهي عمله. كاد يسقط مرّة أخرى لكنّه تماسك جيّدا في آخر لحظة. غمس فرشاة الدهن في السطل ثمّ رفعها لينهي ما بقي في الركن الأخير. أصيب بالذعر حين اكتشف أنّ لون الدهن مختلف كثيرا عن اللّون الذي استعمله في المرّات الأولى، جنّ جنونه ولم يدر ما يفعل، انتبه إليه مشغّله وخاطبه بهدوء قائلا: - يكفيك اليوم ما نالك من حظّ عاثر، لك أن تعود إلى البيت سأتدبّر أمر السقف. نزل من السلّم ولم ينبس بحرف، لم يغيّر ملابسه وغادر المنزل مهموما. لم يشأ أن يعود إلى البيت، سار نحو المقهى المجاور لمنزله، اتّخذ مكانه في ركن منعزل وأخرج علبة السجائر من جيبه وشرع ينظر إلى المارّة من النافذة وهو في شبه غيبوبة عمّا يدور حوله. فجأة أحسّ بدفء يداعب رجله سرعان ما صار نارا حارقة، ورأى النيران تشتعل في سرواله فانتفض صائحا: - النار... النار... أحدكم يطفئها... هرع روّاد المقهى إليه لإخماد ألسنة اللّهب التي طالت رجله، وسقط عادل على الأرض غير مصدّق ما أصابه، إذ يبدو أنّه نسي إخماد عود الثقاب الذي رمى به بعد أن أشعل سيجارته، فوصل إلى سرواله المتسخ بالدهن، فالتهب بسرعة فائقة. غادر المقهى لاعنا ساخطا وقرّر أن يعود إلى البيت وأن يمضيَ بقيّة يومه فيه لا يغادره إلى أيّ مكان. وصل إلى البيت، أدخل يده في جيبه بحثا عن المفاتيح، تذكّر أنه لم يغيّر ملابسه وتركها في مكان عمله. لم يشأ العودة إلى هناك خجلا من مشغّله، فدقّ الباب مطمئنا إلى وجود زوجته فيه بعد عودتها من منزل والديها. ظلّ يدق الباب مرّات لكنه لم يسمع أي صوت داخل المنزل. تأكّد عادل من عدم وجود زوجته داخل البيت، ولم يشأ أن يذهب إلى رؤية حماته المريضة فقد كان على خلاف معها، فاضطرّ أن يعود إلى مقرّ العمل ليأخذ ملابسه ومفاتيحه ويعتذر مجدّدا من مشغّله عمّا بدر منه ذلك اليوم. وصل إلى المنزل –مقرّ العمل- لكنّه لم يجد مشغّله، فقد كان الباب مغلقا أمّا النافذة فقد كانت مفتوحة. ظنّ عادل أن مشغّله تعمّد تركها مفتوحة حتى يجفّ الدهن، ابتهج، فقد ابتسم له الحظّ لأوّل مرّة منذ طلوع النهار. دخل إلى المنزل عبر النافذة واتجه نحو البيت التي ترك فيها ملابسه، أخذها وهمّ بالخروج، لكنّه سمع صوتا غريبا قادما من الدور الأول للمنزل. صعد ليستطلع الأمر، وجد الباب مفتوحا، تسلل من ورائه فإذا بمجموعة من الشباب بصدد احتساء الخمر وقد لعبت برؤوسهم جميعا. قرّر الخروج من المنزل قبل أن يصيبه مكروه، نزل الدّرج بخطى مسرعة وحاول فتح الباب لكنه وجده مقفلا ولا مفاتيح فيه، فاتجه نحو النافذة التي دخل منها، ثمّ خرج منها ملتفتا إلى ورائه خشية لحاق الشباب به، لكنه فوجئ بسيارة الشرطة أمامه، فاعتقلوه ظنّا منهم أنه لصّ واقتادوه نحو مركز الأمن. في المركز، تركوا سراحه ضاحكين بعد أن أخبرهم بأمره، وعاد أدراجه نحو بيته في حالة من الإعياء والتعب، دخل غرفته، قرّر أن ينام وألا يستيقظ إلا في الصباح.