ماذا يجري في معبر راس جدير و في منطقة بن قردان عموما؟ قليل من التونسيين يعلمون حقيقة الوضع في هذه المنطقة الحدودية التي تعيش اساسا من التبادل بين البلدين بالطرق القانونية أو بالطرق الأخرى التي تتجاوز القانون أحيانا ولكنها اصبحت من سبل كسب القوت في انتظار وصول قطار التنمية إلى هذه الربوع التي هي في اشد الحاجة إليها. يقع بين الفينة والأخرى غلق المعبر إما بقرار تونسي وفي اغلب الاحيان بقرار من الجهات الليبية التي تسيطر على الجانب الآخر من المعبر والتي تختلف بحسب ميزان القوى العسكرية التي تأخذ بزمام الأمور في هذه المنطقة الحساسة من القطر الشقيق. معبر راس جدير هو شريان الحياة و التواصل بين البلدين فعن طريقه تمر الشاحنات المعبأة بالسلع في إطار التبادل التجاري الطبيعي بين البلدين و عن طريقه يصل الإخوة الليبيين إلى تونس للتداوي أو للسياحة أو لزيارة عائلاتهم في الجانب التونسي من الحدود. وقد لعب معبر راس جدير دورا محوريا عند اندلاع الثورة الليبية في فبراير 2011 إذ كانت البوابة الوحيدة للخروج من اتون الحرب ومكان المغادرة لكل الجنسيات التي كانت تعمل في ليبيا و التي كانت تعد بمئات الآلاف. معبر راس جدير يؤدي إلى جانب ذلك دورا اجتماعيا اقتصاديا إذ انه يوفر مورد رزق لسكان الجنوب الشرقي الذين يعملون في التجارة البينية التي هي بالأساس قانونية إذ تتمثل في توريد أو تصدير كميات قليلة من البضائع تحتاجها هذه الجهة او تلك بما يساهم في التخفيف من ضغط ارتفاع الاسعار في القطرين و هو ما كانت تلعبه ما كانت تسمى بأسواق ليبيا و التي كانت موجودة في كل المدن والقرى التونسية، و رغم انها تعتبر اسواقا موازية فقد كانت مقبولة من كل الاطراف بمن فيهم مسؤولو الاتحاد التونسي للصناعة و التجارة. كما أن السلطات المعنية من البلدين كانت تغض الطرف عن هذه التجارة البينية طالما انها لا تمس من المحرمات وهي السلاح و المخدرات اساسا. بعد الثورة الليبية و نظرا لتهديدات الجماعات الإرهابية ولما تمثله من أخطار على امن البلدين كان من الضروري اتخاذ الحيطة و الحذر حول كل ما يمر من هذه البوابة و لكن دون ان يمس ذلك من وسائل حياة المواطنين من البلدين وهي عملية معقدة بالنظر إلى العدد الكبير من المارين عبر المعبر و لئن كان الجانب التونسي قادرا على المسك بزمام الأمور فإن الإشكال يأتي من الجانب الليبي بالنظر لعدم وجود سلطة ليبية وحيدة و قارة و بسبب بعض التصرفات التي يرى فيها التونسيون مسا من كرامتهم بما في ذلك فرض إتاوة ب30 دينارا ليبيا على المواطنين التونسيين عند دخولهم القطر الليبي. التونسيون على حق في المطالبة باتفاق رسمي بين البلدين يستعيد بمقتضاه معبر راس جدير نشاطه التجاري و انسياب السلع في الاتجاهين مع حفظ كرامة التونسي كما جاء في تصريحات المحتجين في بن قردان و لا أظن ان للسلطات التونسية أي تحفظات على ذلك لكن الاشكال هو في الطرف الليبي الذي يمكن التعامل معه، خاصة و أننا نعلم أن سلطات متعددة تدعي أنها تتحكم في البوابة في حين ان بلادنا لا تعترف إلا بسلطة حكومة الوفاق الوطني و لا يمكن أن تتعامل إلا معها. ما لا يمكن القبول به هو أن نرى سلطات محلية من البلدين تلتقي و تعقد اتفاقات بينها كما تم بين بلديتي بن قردان من الجانب التونسي و زوارة من الجانب الليبي. إن العلاقات بين البلدين تحكمها اتفاقات تسهر عليها الدولتان و لا يمكن أن تتولاها مجموعات محلية مهما كان إشعاعها و قدرتها. كنا نأمل كثيرا من انعقاد اللجنة العليا بين البلدين التي وقع الإعداد لها في عديد المستويات و كان من المفروض ان تجتمع في نهاية الصائفة و بداية الخريف و لكن يبدو أن التطورات الخطيرة التي شهدتها ليبيا في المدة الأخيرة و عودة الاقتتال داخل العاصمة طرابلس قد يؤدي إلى تأخير ولو نسبي لهذا الاجتماع الهام الذي طال انتظاره و الذي نأمل أن ينعقد في كل الاحوال و أن يكون موضوع المعبر الحدودي برأس جدير من المسائل الاساسية التي يقع الانكباب عليها لإيجاد الحلول لكل الإشكاليات المطروحة بشأنه بما يتيح الانسياب الطبيعي للمواطنين و العربات و السلع دون كبير عناء. الحل الاساسي يكمن دون شك في وصول قطار التنمية الحقيقية إلى كامل الجنوب التونسي وهو أمر لن يتحقق إلا إذا استتب الامن بكامل المنطقة ولو توفرت الإرادة لدى الجانبين لوجدت كل الدعم من الشركاء الاوروبيين الذين يرغبون في استبقاء الناس في مواطنهم للحد من الهجرة غير المنظمة التي تدفع بالشباب إلى ركوب المخاطر بحثا عن لقمة العيش. إننا منذ سنوات عديدة نتحدث عن إحداث منطقة حرة في بن قردان و هي من المشاريع الاساسية التي يجب إيلاؤها أهمية قصوى لما لها من مردودية على المنطقة بمجملها و لكن أمام تضارب التصريحات او الصمت احيانا لا ندرى إلى أي مدى وصل المشروع و ما هي حقيقة تأثيراته سلبا أو إيجابا على الجنوب الشرقي برمته. ما نتمناه هو ان تكون هذه المنطقة الحرة حافزا اساسيا لتعاون تونسي ليبي يرمي إلى تطوير الجانبين من الحدود بين البلدين بما يجعلها من اولويات العلاقة القائمة بينهما.