سقى اللّه ثراك يا وطني، وباركت السماء نقاء روحك الصامدة، من أجلك قامت الثورة، من أجل حريتك وكرامتك وأجيالك ونقاء تاريخك . وكأن الحلم بدأ يتبخر عبر أكاذيب وجرائم من كان قبل وأثناء وبعد الثورة، أخشى عليه حلمنا أن يتبخر كما تبخرت أحلام أوطان كثيرة، بدأت حكاية جميلة لم يمنحها الزمن فرصتها للتداول، فهب الكاذبون والصادقون يكتبون فصول المسرحية كل على طريقته مقتنعا أن له الحق في الاقتباس السياسي، والاقتصادي، والاعلامي، والحقوقي. كل منهم يحتكر مجال حقوق الانسان، والحقوق عامة والتنظير على الثورة التي لم يشارك فيها، بل الأدهى كانوا متسترين على الوضع بالصمت، ومتواطئين بالتعبير العقيم والطرق الملتوية. الوحيد الذي لا حق له بالرسم، هو المواطن الذي تشبث بخيط رفيع اسمه حرية التعبير، ليعبر عن مطالبه اليومية والحياتية، بعد أن أقنعوه أنه سيحصل عليها « الآن الآن وليس غدا» الثورة تتحول الى اللامعقول، بلد مأساة، أين الثوار الذين طالبوا بالثورة تحت رداء الحرية والكرامة؟ اسم البوعزيزي أصبح مستهلكا، أين الشهداء الذين رحلوا تاركين لنا ذكراهم لنمضي بها نحو هدفهم المنشود ؟، لقد استوطن الألم والوجع في حياتنا برحيلهم. واستوطن البؤس والعواصف والثأر في بلادنا بعد رحيلهم. كيف يمكن أن نعيد البريق الى ثورة الوطن التي هزت العالم، ودكت الحواجز، ودمرت الطغيان، بفضل أولئك النبلاء والشرفاء، وأسياد الثورة والحرية، الذين قبضوا على الجمر، ليتحولوا الى صواعق من لهب، تحرق المستحيل وتزلزل الأرض، ورسموا بدمائهم وأصواتهم وهتافاتهم، أن تبقى تونس عزيزة خالدة بلد الأمان وشعب الايمان. حققت الثورة وحدتنا، فلماذا تشتت بعد ذلك؟ انطوت معاني الثورة واستيقظت الجهويات، كل يزايد على بؤس جهته, كانت الثورة ماردا ألبسنا رمز الكبرياء وعزة النفس، أصبح المارد اليوم ملعقة لكل وعاء. كانت الثورة رمزا للحرية والانطلاق نحو الأفضل، أصبحت بؤسا في الجهات ونفايات على الطرقات، وتوسل حتى الاهانة. هذا البلد الذي أشعل ثورة وبشر بميلاد جديد لا يستحق أن يصبح مأساة تبثها للعالم فضائياتنا اللاواعية. المطالبة بالحقوق شرعية، لكن لا يمكن أن نستغل ثورة الأحرار كركيزة للمطالب. لأنني أخشى أن يفقد ذلك المارد دلالته الثورية والوطنية، لقد رأينا الثورة وعشنا نشوتها، ما الذي جرى حتى نرى الحرية التي نعبر بكلماتها اليوم لا تعتبر الانتماء الوطني، ولا الائتلاف الاجتماعي ولا ذلك النضال الذي عرفنا من خلاله معنى الانتصار مجسدا بأنبل وأشرف معاني الثورة .أخشى أن تصبح الثورة شظايا كل يأخذ منها قطعة يبارز بها، نطالب بحكومة وحدة وطنية؟ فلنطالب بشعب وحدة وطنية. الثورة تتعثر في حرية شعبوية وتصفية حسابات، وغش مواقف، ونفايات على الطريق وخيانات للشعب، اهمال في الوظائف، انعدام في الأخلاق المدنية، طرد تعسفي، مساومات بحرائق بشرية، تطاول على السلطة بكل أنواعها، على الحكومة، على الأهل، على الأجيال السابقة، على التعليم، على رؤساء التحرير، على المديرين، على الوزراء، على الأمن، على.. لا نهاية ولا حسبان. تمرد لا علاقة له بالحرية السامية التي طالما صبونا اليها، اليوم هي حرية ملغاة يعوضها تمرد رجعي، من مخلفات الطغيان الرجعي الذي عاشه شعب سكت حتى الاعاقة، ثم استفاق وأعلن أنه يستطيع الكلام، فخرجت الكلمات غوغاء، غوغاء في الشارع، غوغاء في القرى، غوغاء في مجلس النواب، وسخافة في مجلس المستشارين. كيف ننقذ مباديء الثورة؟ هل تكفي الكتابة؟ هل تكفي الادانة؟ هل يكفي الشعور بالذنب؟ كيف نتفادى استلاب شعب من خلال استهداف ثورته ووحدته، وادخاله في أتون متاهات نهايتها مجهولة، ماذا سيبقى من الثورة؟ بعد أن دخلت مرحلة وجع حقيقي لا ينبغي التهوين من شأنه، ولا تهويله أيضا، كيف يمكن أن نعيد الى الحياة معناها؟ والى الثورة سموها وجلالها ؟ كيف يمكن أن نبني دولة ديمقراطية تقطع مع الماضي وأحقاد الماضي؟ أن نكون شعبا لم تلوثه الأحزاب السياسية؟ السؤال الأهم : هل انتهت الثورة؟ هل هي متواصلة؟ أم أنها ستبدأ الآن ؟الثورة لم تنته، الثورة الحقيقية تبدأ الآن، لمستقبل لا بد أن يكون أفضل مما فات، لقد توالت الأحداث مسرعة، ولا بد من اصلاح ما دمرته الأحداث وما زالت تفعل، خسائر اقتصادية، سياحية، بيئية، تنموية وأخلاقية.. تستمر تداعياتها اليوم وستستمر غدا، الانتفاضة الشعبية كانت على الظلم والطغيان، على تنمية زائفة تقوم على ارضاء المؤسسات الدولية، على النظام الاقتصادي والسياسي القائم، نظام اهتم بالأرقام أكثر مما اهتم بالمواطن، والمواطن اليوم يهتم بالأرقام أكثر مما يهتم بالوطن. اليوم هناك سياسة اجتماعية واقتصادية تفرزها ثورة الشارع، لا بد أن نتضامن لندمج فيها ثورة الأخلاق المدنية، التضامن في السراء والضراء، بداية من محاولة لكل الشرائح بتنظيف بلدنا، فكما تجمعت مئات السيارات للذهاب الى سيدي بوزيد، يمكن أن تتجمع لتونس أجمل وتونس أنظف. غدا إن أردنا أن نعيد الى الثورة اعتبارها كتاريخ من خلال تدريسها وتقديمها للأجيال لمعرفة أهدافها؟ ماذا سنروي عن 14 جانفي؟ ماذا سنكتب في كتب التاريخ؟ أتمنى أن نكتب : « اجعلوا تونس نصب الأعين، فقد كانت ثورة الشموخ والحكمة والكرامة».