في البداية أعلن بأني أريد أن أحْرِمَ هذا القس الأمريكي من ذكر اسمه هنا لأعامله بنقيض مقصوده في طلب الشهرة، ولست أنوي إقناعه بالتراجع في تهديده لأني متأكد من أنه لن يقرأ مقالي حتى ولو ترجم إلى لغته، لذلك سأتحدث عن تهديده للمسلمين بحرق القرآن (إذا لم يتم نقل موقع مسجد من المقرر تشييده بالقرب من موقع مركز التجارة العالمي الذي استهدفته التفجيرات) في هجمات 11 سبتمبر. وهو يتجاهل بهذا التهديد الإجراءات التي اتُّخِذَتْ مع كبار المسؤولين الأمريكيين وموافقتهم على مكان إقامة المسجد، ويتغافل عن أن هذا التهديد يدل على ضعف تفكير، فكأنه يملك النسخة الوحيدة من القرآن، ويُساوم المسلمين على إتلافها ليحرمهم من الاطلاعِ عليها والعملِ بما جاء فيها والتعبد بتلاوتها، مقابل التخلّي عن بناء ذلك المسجد. ألا يدرك هذا القس أن هذا التهديد لا يمكن أن يَستجيب له أصحاب هذا المشروع لأنهم يعرفون أن: «التساهل مرة يجرّ المرات»، ولو استجابوا لهذا التهديد غير المبرر، لهدد بعد ذلك بإزالة مسجد واشنطن، ولجاء بعده من يهدد بإزالة مسجد باريس، وبقية المساجد الموجودة في جميع أنحاء العالم غير المسلم، بنفس السلاح أو بسلاح آخر. ألم يسمع هذا القس بأن أهل المنطق والعقل السليم قد قالوا: (الحكم على الشيء فرع عن تصوره؟) فكيف يحكم على شيء لا يتصوره ويعرف عنه شيئا بإقراره هو حين قال: (لم ولن أقرأ القرآن)، ثم هدد بحرقه، ولو علل تهديده تعليلا واضحا لأقنع أنصاره على الأقل، وكان منطقيا مع أهل المنطق وذوي العقل السليم، وأودّ أن أسأل هذا القس هذا السؤال: لو سمعتَ، أيها القس، أن بعض العرب والمسلمين أرادوا أن يقيموا، في ذلك المكان أو أي مكان آخر، ملهًى أو حانة أو ماخورا، هل كنت تهدد بإراقة آلاف الزجاجات من الويسكي والشمبانيا والكونياك، وبإحراق المصانع التي تصنعها؟ وهل ستهدد بحرق جميع دواوين الشعر الإباحي، وخاصة ديوان أبي نواس في خمرياته وغلمانياته، وديوان ابن أبي حُكَيْمة في رثاء أهم أعضائه، وهل كنتَ، من أجل منع ذلك، ستقيم القيامة؟ أم أنك ستسكت عن ذلك المشروع الافتراضي المخالف للأخلاق الحميدة وربما تباركه وتُنوِّه به. وإذا كانت جميع أنواع المشروبات الروحية غير محرمة في شريعتك، فهل كنت تسمح للناس بأن يأتوا بقية الفواحش ويفعلوا المنكَرات في دُور الخنا التي أشرت إليها في المشروع الافتراضي، عوض المشروع الذي ترفض إقامته؟ ألا يعلم هذا القس أن المصلين يعبدون الله خمس مرات في اليوم في المساجد التي يؤمونها، ويقرؤون في بداية كل ركعة سورة الفاتحة: فيحمدون اللهِ.. ويطْلُبُون منه أن يهديهم إلى الطريق المستقيم... وأن يُجنِّبَهم طريق الذين كانوا من المغضوب عليهم من الذين ضلُّوا عن طريق الهدى، إلى جانب سور وآيات تدعو إلى الخير وتنفر من الشر...؟ وهل يعلم هذا القس أن إمام الجمعة يلقي على المصلين في ذلك اليوم خطبتين فيهما توعية للمصلين باجتناب المحرمات وفعل الحسنات وترك السرقة والفساد، وتحريم قتل الناس، فقد قال الله تعالى: «ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق»، فأيهما أفضل، لدى هذا القس، أن يقوم المسلمون في بلاده بإتيان كل ما هو حلال، أم بعصيان الله في ما أمر به من اجتناب المحرمات؟ وأكتفي بإحالته على كتاب (محمد عند علماء الغرب) لخليل ياسين الذي طبعته مؤسسة الوفاء بيروت ويقع في 210 صفحات من الحجم الكبير ويشتمل على أقوال لغربيين من معظم الجنسيات، وسأختار منها الكلمة التالية للشاعر الألماني الأشهر التي قالها في كتابه «الإسلام» ص 67 بعد تعداد ما جاء به الإسلام: (إذا كان ذلك هو الإسلام، فكلنا مسلمون، نعم كل من كان فاضلا شريف الخُلُق فهو مسلم. ألا إن دين محمد كلَّهُ إخلاص ودين اجتماع وأخلاق ورعاية لبني الإنسان، فإذنْ يمتاز شرع محمد ودينه عن غيره.) هذه كلمة واحدة مركّزة عن الإسلام من شاعر ومفكر ألماني وقعت ترجمة أدبه إلى مختلف لغات العالم. أما (الإرهاب) الذي اتخذه حكام بلاد هذا القس ذريعة لتسليط (الإرهاب) على العالم الإسلامي من العرب والعجم، فلا يمكن أن يصدر الأمر به من الأئمة في المساجد وبيوت الله في بلاد المسلمين، فما بالك بالبلاد غير المسلمة، ولم أسمع إماما في جميع المساجد التي دخلتُها في كثير من بقاع العالم الإسلامي يحرّض عليه، ولا أعلم أن حاكم دولة إسلامية يسمح لإمام أو داعية بالتحريض على الإرهاب والعمليات الانتحارية وتفجير النفس، لأن (الانتحار) يُساوي قتْل النفس، هذا في البلاد الإسلامية، فما بالك بإمام في قلب العاصمة الأمريكية تراقبه العيون والكاميرات والأسماع والإذاعات قرب (البُرجين) اللذين (يزعم) الأمريكيون أن تنظيم القاعدة قد نسفهما بطائرتين منطلقتين من بعض مطارات أمريكا، ومهما يكن نصيب هذا الزعم من الصحة، فإن هاتين الطائرتين لم تنطلقا من (مسجد واشنطن) أو غيره من المساجد ولم يقع التخطيط لهما في المساجد، ولم يكن الداعي إلى عملهما إمام مسجد، بل كانت البواعث الحقيقية على ذلك، تلك المظالم الأمريكية التي سلطت على أبناء تلك الربوع. أجل إنهم لا ينطلقون من المساجد المشيدة في العالم الإسلامي أو العالم الغربي، بل من مغاور ومرتفعات جبال أفغانستان التي (دوّخت رؤوس الروسيا) و(أرهبت رُهبان الأمريكان)، أو هكذا أوهموا الناس لتبرير أعمالهم (الإرهابية) والإجرامية المبنية على المطامع في سلب ثروات الشعوب المستضعفة، وتقزيم عمالقة المستقبل ليبقوا وحدهم في أعلى هرم السلطة العالمية. وللحديث بقايا.