اهتزت العاصمة الروسية موسكو بتفجيرات طالت بعض محطات قطار الأنفاق فيها... عمليتان نفذتهما فتاتان من داغستان وسقط فيهما العشرات من المدنيين الابرياء. وأقسم رئيس الحكومة الروسي فلاديمير بوتين ان يلاحق المتسببين ولو في ثنايا المجاري... واثر ذلك عمليات مسلحة أخرى لكن في داغستان ذاتها ثم في جارتها وشقيقتها انغوشيا... ورفعت عواصم العالم الكبرى عقيرتها تتحدث عن «الارهاب» وتدينه. وما جرى في موسكو غير ما حصل في الارض الداغستانية... ولتتضح الصورة وخلفياتها بوجه خاص لابد من الحديث عن داغستان... فهي احدى جمهوريات روسيا الاتحادية... مساحتها خمسون ألف كلم مربع ثلاثة ارباعها من الجبال في منطقة القوقاز او القفقاس أو جبل الألسن كما سماه العرب... وحق للعرب ان يطلقوا على البلد تسميات فهم عرفوه منذ اكثر من اربعة عشر قرنا حيث سير الخليفة الراشد عمر ابن الخطاب حملة الى المنطقة بقيادة الصحابي (عمرو بن سراقة) عرفت بحملة (باب الابواب) نسبة الى المدينة التي وصلها جيش الفتح والتي تسمى حاليا (درابنت). وكان سكانها من النصارى والمجوس واقلية يهودية وطلب ملكها عقد معاهدة صلح فريدة من نوعها لكن اجازها الفاروق عمر وتقضي بأن يتولى الملك معاونة المسلمين عسكريا وبأن يكون عينا لهم على اعدائهم على أن يعفى من دفع الجزية... وتحولت باب الابواب فعلا الى منطلق لانتشار الاسلام في المنطقة كلها التي سماها العرب (الرحاب) ومنها اذربيجان وتفليس الجيورجية والشيشان وانغوشيا وغيرها... وفي العهدين الأموي ثم العباسي انتقل العرب بالآلاف الى (باب الأبواب) والى (محج قلعة) العاصمة الداغستانية الحالية وغيرهما حتى غدا العنصر العربي يشكل العمود الفقري للداغستانيين الذين اتبعوا المذهب الشافعي واستخدموا العربية لغة كتابة وتخاطب بل اضافوا الى أبجديتها بعض الحروف... وورق السلاجقة الأتراك من سبقوهم ثم العمانيون فزادوا العنصر التركي... ثم زحف القياصرة الروس الذين تمددوا من (بطرسبورغ) حتى المحيط الهادي وبحر قزوين التي تحتل داغستان جزءا من ضفافه... واتبع الروس / القياصرة ومن بعدهم البلاشفة سياسة الضم الكامل ونشر اللغة الروسية واسكان الروس باعداد كثيفة... وحارب الشيوعيون الاسلام والعربية فهدموا جل المساجد حيث لم يتركوا من ألف إلاّ 27 مسجدا... وقاوم الداغستانيون الزحف السلافي حوالي نصف قرن ثم عادوا للثورة ثم خضعوا ناقمين تحت ضغط الحديد والنار... وسقط الاتحاد السوفياتي في تسعينيات القرن الماضي وتفككت جمهورياته لكن بقيت داغستان وشقيقاتها الاسلاميات ضمن روسيا الاتحادية وهم لذلك رافضون... ولم يكن أحد يتحدث عن ارهاب بل ربما كان ثمة من يعتبر مقاومة الشعوب القوقازية للتبعية الروسية مقاومة وطنية... الى أن كانت احداث سبتمبر 2001 التي انطلق بعدها جورج بوش الابن كالثور الهائج يشن حربه العالمية على (الارهاب)... وانتشر المصطلح وأصبح على كل فم ولسان بل فرض على العواصم والحكومات وأخذت واشنطن في اصدار القائمات المصنفة للجهات «الارهابية»... ولكن... إذا قاومت داغستان او الشيشان فهو ارهاب... أما اذا قاومت (اوسيتيا) النفوذ الجيورجي وانفصلت عن جورجيا بتدخل عسكري مباشر من روسيا فذلك ليس بارهاب بل (تدخل سافر) سرعان ما خفتت الاصوات المنددة به. وإذا أحرقت اسرائيل الارض اللبنانية فذلك للقضاء على الارهاب وميلاد الشرق الاوسط الجديد وكلنا نذكر غوندوليزا رايس وهي تعيق دعوة مجلس الامن لوقف العدوان مرددة ان ولادة هذا الشرق المطلوب عسيرة... وإذ «سكب» الصهاينة الرصاص على غزة ارضا وحجرا وبشرا فإن ما قاموا به هو (دفاع عن النفس) ومقاومة للارهاب الفلسطيني... وإذ قتل الامريكان المدنيين العراقيين بدم بارد فهو أيضا دفاع عن النفس وفي افضل الحالات «خطأ» يحكم القضاء الامريكي (العادل) ببراءة مقترفيه؟ وقد يستضافون اسابيع معدودة في سجن خمسة نجوم... أما إذا تم اصطياد جندي محتل غامر بالخروج من القلاع العسكرية التي أقامها الامريكان في بلاد الرافدين فان ذلك ارهاب شنيع... باختصار... كل ما لا يرضي امريكا واسرائيل ومن والاهما فهو ارهاب وكل ما يخدم مصالحهم فهو دفاع شرعي وعمل مطلوب للقضاء على الارهاب... والعالم يتابع ويعي الحقيقة كاملة ولا يجد المظلومون حيلة في معظم الاحيان الا انتهاج سياسة (عليّ وعلى اعدائي)... ولحد الساعة ترفض قوى العالم الكبرى ان تفرق بين قنابل وصواريخ تحصد الابرياء وصواريخ تدمر في عدوان... ترفض تعريفا عالميا واضحا للارهاب وتتركه سيفا تسله متى تريد وتغمده عندما تشاء... بل ترفض أيضا أن تبحث في أسباب هذا الارهاب لتجفيف منابعه وتصر على انتهاج سياسة بوش الفاشلة في مقاومة الارهاب والرد عليه واستباقه... ويقينا ما دامت هذه الحال فلن يتوقف اليائسون ممن ظلموا عن الانتحار وتفجير القطارات والانفاق... ولن يتردد الباحثون عن الزعامة عن التفجير ولا عشاق الفتاوى عن التبشير بالجنة لكل من مات «شهيدا» وهو يردي معه الجميع في طائرة تطير أو قطار يسير...