فجأة تحركت الارض بعنف وأصدرت أصواتا مزعجة... تفوق في بشاعتها أصوات المحركات القديمة. لحظات فقط انهارت المباني وتساقطت المدينة شظايا زلزالية على رؤوس متساكنيها... وتحولت الى غبار. دقيقة ونصف من عمر الزلزال حوّلت جزيرة هايتي الى حطام... أشلاء في الشوارع... أموات تحت الأنقاض.. جرحى يصرخون... يطلبون نجدة لن تأتي. لا حياة في مدينة كانت قبل الساعة الرابعة ونصف من مساء ذاك اليوم الحزين تعجّ بالحياة... لا أصوات سوى اصوات انهيار المباني وتساقط الأعمدة الكهربائية على السيارات وبضعة أسئلة احتفظ بها أحياء تبقوا على قيد النجاة.. يتساءلون كيف حال من كانوا حولنا؟ ومن تبقى من الأحياء في المدينة؟ زلزال مفاجئ أغرق الجزيرة في الركام والظلام... وفقدت الاتصالات. يتذكر الناجي من الموت المحقق، الموظف لدى البعثة الأممية في هايتي، التونسي محمد مهدي الشريف الذي عاد الى الوطن يوم الأحد الماضي كيف انه جرى لحوالي أربع ساعات، وسط الشوارع المكتظة بالحطام، من مقر عمله الى منزله بحثا عن زوجته وطفله ان كانا قد نجيا من الكارثة... بعد ان فقدت الاتصالات. ربع ساعة تحوّلت الى أربع ساعات ببقايا خوف ماتزال بادية على وجهة تحدث محمد مهدي بصوت مبحوح ل «الشروق» ليقول إن حنجرته كادت تتمزق من الصراخ مساء يوم 12 جانفي الحزين وهو يبحث عن عائلته وسط كمّ الضحايا في هايتي. قال إنه اتصل بزوجته رباب في حدود الساعة الرابعة والنصف من ذاك اليوم وأخبرها انه سيصل الى المنزل خلال ربع ساعة فقط وقبيل مغادرته المكتب أجرى اجتماعا عاجلا مع بعض الموظفين. وجرت مناوشة صغيرة بينه وبين أحد الموظفين جعلت مهدي يضرب بقوة على طاولة الاجتماع فتحرّكت تحت يديه. لم يصدّق شاهد العيان ان قبضته حركت الطاولة بتلك القوة.. لكنها استمرت في الحركة بعنف والتفت مهدي ليرى ان المجتمعين انبطحوا أرضا أمام تلك الحركة صارخين «ça bouge, ça bouge» «إنها تتحرك... إنها تتحرّك».. صوت مزعج اصدرته الارض أخافت مهدي وجعلته ينبطح ارضا بدوره. المدينة الركام رجّة ثانية قوية كانت الدافع لصراخ مهدي «الله أكبر الله أكبر». قال وبقايا الخوف تعلو محياه «تأكدت من الموت في تلك اللحظة ولم أفكّر سوى في جنازتي... كيف أنني بعيد عن الأهل وأنني قد احتسب من ضمن ضحايا الكارثة فأدفن مع المجهولين دون صلاة جنازة». اقترح مرؤوسه في العمل مغادرة المبنى فرفض مهدي قائلا: «سننتظر النجدة».. أجابه مرؤوسه «عن اي نجدة تتحدث؟ المدينة انهارت ولم يتبقّ منها سوى الغبار». بعدها تسلل الموظفون من الطابق الخامس وبحذر شديد في محاولة للهروب من المبنى. قال مهدي إن الحطام الذي رأيته بُعيد خروجي من المبنى لا يمكن لأية عدسة تصوير التقاطه ولا يمكن حتى وصفه. مساعدة كان كل ما يدور في خاطري تلك اللحظة هو العثور على زوجتي رباب وطفلي أحمد البالغ من العمر 8 أشهر لكن الاتصالات كانت قد قطعت بسبب الزلزال والمدينة بأكملها تحوّلت الى ركام. ترجّل مهدي وسط الغبار بعد ان تخلى عنه سائقه وكاتبته الخاصة فأخذا السيارة وغادرا... وظل يترجل وسط هول المشاهد التي رآها. قال إنه حاول مساعدة البعض فأخرج من سَهُل إخراجه من تحت الأنقاض آملا في العثور على رباب وأحمد على قيد الحياة هناك حيث منزلهما الواقع وسط فندق على مرتفعات هايتي. هرولتُ وسط الغبار متعثّرا في أشلاء ودماء ضحايا المباني... اعترضني بقايا أحياء عراة يصرخون.. ورغم خوفي وتعبي واصلت الهرولة بحثا عن سيارة او أية وسيلة أبحث بها عن عائلتي. هل ماتا؟ عثر على مقعد على متن احدى سيارات رجال الامن لكنه في الطريق وجد جريحة في حاجة للمساعدة وأولى منه بالحصول على ذاك المقعد... «نزلت وساعدتها على الصعود للسيارة ثم نقلها للمساعدة» وواصلت الجري أملا في نجاة عائلتي. كان الطريق الى الفندق مغلقا بسبب الحطام لكن مهدي أصرّ على الوصول.. وفي الطريق التقى سيدتين سألهما كيف هو الفندق.. فردّا بسؤال هل لديك أحد هناك؟ أجابهما على الفور «زوجتي وطفلي»... تأسفتا وأخبرتاه ان الفندق تحوّل الى حطام وبعد ابتعادهما عنه بخطوات علّقت احداهما «مسكين فقدهما». وصل مهدي الشريف، الموظف الأممي، الى الفندق بعد معاناة طويلة مع الطريق فوجده مسوّا مع الارض.. سأل عن الناجين فأخبروه انهم هناك... عدد قليل لم تكن بينهم زوجته او طفله. بكى مهدي غير مصدّق انه فقدهما بسبب الزلزال... واستمرّ يسأل معارفه من رأى منكم زوجتي. كاد اليأس يدب الى قلبه لولا تلك الجملة المتقطعة التي نطق بها احد معارفه «زوجتك لم تمت». وصل شاهد العيان الى مأوى سيارات خلف حطام الفندق أين أشاروا الى وجود زوجته .. كان ذلك في حدود التاسعة من مساء 12 جانفي. «كان هناك عدد من الأحياء وكانت الظلمة تكسو المكان ولم أتبين زوجتي فناديت بصوت عال رباب» قنبلة حينها، تقول زوجته رباب متحدثة ل «الشروق» تبيّنت صوته فناديته مهدي إنني هنا. كانت أكثر تماسكا منه صباح أمس تحدثت إلينا بصوت هادئ لتقول انهما نجيا بمعجزة. قالت إن زوجها انهار باكيا حيث التقاها وأمسك بطفله يبكي وجع الخوف ووجع حياة تحولت فجأة الى ركام. روت شاهدة العيان ما حصل لحظات الزلزال فقالت انها كانت بصدد نشر ثياب قد غسلتها للتوّ .. لكنها لاحظت ان سرير طفلها يتحرك وحين تثبتت لاحظت ان الكل يتحرك .. حملت أحمد بين يديها قبل ان تستمع الى انهيار جدار المطبخ ..وغادرت المنزل مسرعة كانت حافية وترتدي ثيابا قليلة نظرا لارتفاع درجات حرارة الجزيرة. قالت رباب إن الغبار كان يكسو الشارع فظنت أنه تم تفجير قنبلة في المكان نظرا لارتفاع العمل الاجرامي في الجزيرة.. لكن صوت الأرض المزعجة جعلها تتأكد أن الأمر كارثة طبيعية. نجاح أمني أمضى شاهدا العيان مهدي وزوجته ثلاثة أيام من التشرد في ركام هايتي بحثا عن العودة الى الوطن.. وفي انتظار العودة استمرا يطعمان الطفل ماء وبضعة حبات من البندق. ويؤكد مهدي الموظف الأممي انه لقي السند المعنوي من موظفي الإغاثة ومن سفير تونس في اسبانيا اذ تم تسهيل عودته وعائلته الى تونس. كما أثنى محمد مهدي الشريف في حديثه ل «الشروق» على خصال الراحل الهادي العنابي رئيس البعثة الأممية في هايتي قائلا انه نجح في خططه من أجل الأمن في الجزيرة وأنه كان يعمل منذ نهاية شهر ديسمبر على تحريك عجلة الاقتصاد في الجزيرة ولأول مرة تعيش هايتي احتفالات رأس السنة دون حوادث قتل أو خطف لكن الزلزال أعاد المدينة الى الصفر. إلتقتهما : أسماء سحبون