عاجل/ وزير الشؤون الاجتماعية يعلن عن بشرى سارة للمتقاعدين في هذا القطاع..    اليوم..محاكم تونس الكبرى دون محامين..    وزير الشّؤون الاجتماعيّة: "التمديد في سنّ التّقاعد بالقطاع الخاص سيدخل حيّز التنفيذ قريبا"    تونس: في ظلّ تحقيق الاكتفاء الذاتي في مُنتجات الدواجن مساعي للتوجه نحو التصدير (فيديو)    مفزع: أكثر من 10 آلاف شخص في عداد المفقودين تحت الأنقاض بغزة..    تشاجرت مع زوجها فألقت بنفسها من الطابق الرابع..وهذا ما حل بمن تدخلوا لانقاذها..!!    روبليف يقصي ألكاراز ويتقدم لقبل نهائي بطولة مدريد المفتوحة للتنس    حوادث/ 9 قتلى و341 جريح خلال يوم واحد..!!    شاب افريقي يقتحم محل حلاقة للنساء..وهذه التفاصيل..    لمن يهمّه الأمر: هكذا سيكون طقس ''الويكاند''    المرسى: القبض على شخصين و حجز أكثر من 130 قرصًا مخدرًا    يهم التونسيين : حيل منزلية فعالة للتخلص من الناموس    وزيرة التربية تكشف تفاصيل تسوية ملفات المعلمين النوّاب    بينهم ''تيك توكر''...عصابة لاغتصاب الأطفال في دولة عربية    البنك المركزي : نسبة الفائدة في السوق النقدية يبلغ مستوى 7.97 % خلال أفريل    حالة الطقس ليوم الخميس 02 ماي 2024    محمد بوحوش يكتب .. صرخة لأجل الكتاب وصرختان لأجل الكاتب    نَذَرْتُ قَلْبِي (ذات يوم أصابته جفوةُ الزّمان فكتب)    مصطفى الفارسي أعطى القصة هوية تونسية    المهرجان الدولي للثقافة والفنون دورة شاعر الشعب محمود بيرم التونسي .. من الحلم إلى الإنجاز    ستيفانيا كراكسي ل"نوفا": البحر المتوسط مكان للسلام والتنمية وليس لصراع الحضارات    عاجل : سحب عصير تفاح شهير من الأسواق العالمية    اليوم: وزارة التربية وجامعة التعليم الأساسي تمضيان اتفاقا هذه تفاصيله    الشرطة تحتشد قرب محتجين مؤيدين للفلسطينيين بجامعة كاليفورنيا    تركيا ستنضم لجنوب إفريقيا في القضية ضد إسرائيل في لاهاي    وفاة حسنة البشارية أيقونة الفن الصحراوي الجزائري    أمطار غزيرة بالسعودية والإمارات ترفع مستوى التأهب    مندوب روسيا لدى الامم المتحدة يدعو إلى التحقيق في مسألة المقابر الجماعية بغزة    طيران الكيان الصهيوني يشن غارات على جنوب لبنان    بعد اتفاق اتحاد جدة مع ريال مدريد.. بنزيما يسافر إلى إسبانيا    المرسى.. الاطاحة بمنحرفين يروّجان الأقراص المخدّرة    مدرب بيارن : أهدرنا الفوز والريال «عَاقبنا»    أخبار الاتحاد المنستيري...رهان على «الدربي» وفريق كرة السلة يرفع التحدي    في خطإ على الوطنية الأولى: دكتور وكاتب يتحول إلى خبير اقتصادي    وفاة الفنانة الجزائرية حسنة البشارية    اتفاقية تمويل    وزارة الشباب والرياضة تصدر بلاغ هام..    غدا الخميس: وزارة التربية والجامعة العامة للتعليم الأساسي يوقعان اتفاقا ينهي توتر العلاقة بينهما..    النادي الافريقي- جلسة عامة عادية واخرى انتخابية يوم 7 جوان القادم    الكاف: اليوم انطلاق فعاليات الدورة التاسعة لمهرجان سيكا جاز    ندوات ومعارض وبرامج تنشيطية حول الموروث التراثي الغزير بولاية بنزرت    بعد تتويجه بعديد الجوائز العالمية : الفيلم السوداني "وداعا جوليا " في القاعات التونسية    روبليف يقصي ألكاراز ويتقدم لقبل نهائي بطولة مدريد المفتوحة للتنس    وزارة السياحة تقرّر احداث فريق عمل مشترك لمعاينة اسطول النقل السياحي    الاحتفاظ بتلميذ تهجم على استاذته بكرسي في احد معاهد جبل جلود    مدينة العلوم بتونس تنظم سهرة فلكية يوم 18 ماي القادم حول وضعية الكواكب في دورانها حول الشمس    جندوبة: فلاحون يعتبرون أن مديونية مياه الري لا تتناسب مع حجم استهلاكهم ويطالبون بالتدقيق فيها    عقوبات مكتب الرابطة - ايقاف سيف غزال بمقابلتين وخطايا مالية ضد النجم الساحلي والملعب التونسي ونجم المتلوي    القيروان: إطلاق مشروع "رايت آب" لرفع الوعي لدى الشباب بشأن صحتهم الجنسية والانجابية    اعتراف "أسترازينيكا" بأن لقاحها المضاد لفيروس كورونا قد يسبب آثارا جانبية خطيرة.. ما القصة؟    هام/ وزارة التربية تدعو إلى تشكيل لجان بيداغوجية دعما لتلاميذ البكالوريا..    وزارة التجارة: لن نُورّد أضاحي العيد هذه السنة    تونس تشارك في معرض ليبيا للإنشاء    مهرجان سيكا جاز: تغيير في برنامج يوم الافتتاح    اليوم: تونس تحيي عيد الشغل    وزارة الفلاحة تضبط قيمة الكيلوغرام من التن الأحمر    عاجل/ "أسترازينيكا" تعترف..وفيات وأمراض خطيرة بعد لقاح كورونا..وتعويضات قد تصل للملايين..!    يوم 18 ماي: مدينة العلوم تنظّم سهرة فلكية حول وضعية الكواكب في دورانها حول الشّمس    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التونسيون بين نار الأسعار المرفوعة والألسن المقطوعة...
نشر في الحوار نت يوم 26 - 02 - 2010

أعلن على غير العادة في أكثر الأحوال عن رفع أسعار المحروقات في تونس رسميا في بحر الأسبوع المنصرم. ومعلوم أنّ المحروقات تعد في دنيانا اليوم وقود الحياة اليومية من الفجر الباكر حيث تحتاج ربة المنزل إلى إعداد فطور أطفال المدارس حتى تأوي إلى مخدعها ليلا وبمثل ذلك تكون المحروقات وقود الحياة العامة القائمة على استخدام وسائل النقل ذهابا وإيابا فضلا عن مرافق أخرى لا حصر لها..

الترفيع في أسعار المحروقات تتبعه ترفيعات أخرى في أسعار أخرى.

الترفيع في أسعار المحروقات سيكره المستثمرين في كل المجالات التي تقوم على استخدام المحروقات على الترفيع في أسعار خدماتهم بالضرورة من مثل النقل العام والنقل الخاص وغير ذلك.

بكلمة واحدة: المواطن هو وحده من يتحمل أثر تلك الزيادات المرهقة المتتابعة يجر بعضها بعضا بشكل منطقي مفهوم.. يستوي في ذلك أن يكون المواطن رب بيت أو عامل أو موظفة أو مستثمرا صغيرا.. أما العاطل عن العمل والعامل الموسمي فإنهما يصابان مرتين: مرة لأنهما لا يجنيان ما يوفران به العيش الكريم الكفيف لأهلهما ومرة لأنهما يتحملان أعباء تلك الزيادات المشطة في المجالات الحيوية من مثل مجال المحروقات في بلاد يسير فيها كل شيء ويتحرك ويعمل وينتج بالمحروقات..

التبرير الحكومي الرسمي لا يحمل أية مصداقية.

بررت الحكومة التونسية تلك الزيادات في مجال المحروقات بانعكاسات الأزمة المالية العالمية غير أنّ ذلك لا يحمل أية مصداقية لسببين: أولهما أنّ الحكومة ما فتئت تتباهى بصمودها في وجه الأزمة الدولية فضلا عن تباهيها بما تسميه كذبا مسفا (معجزة اقتصادية) أما ثاني السببين وهو الأهم هنا فهو أنّ مسألة الترفيع بنسبة كبيرة في مجال حيوي كبير وخطير يمس حياة كل مواطن دون أدنى استثناء مع تعمد الإعلان عن ذلك رسميا على غير العادة في زيادات أخرى أكبر وأخطر لم يكتشفها المستهلك إلا أمام الصندوق الذي يستخلص منه معاليم مشترياته .. تلك مسألة ستكشف الأيام الحبلى عن حقيقتها باعتبار أنّ جهاز الحكم في تونس يغلي منذ سنوات قليلة قريبة بأجنحة من حديد متصارعة متهافتة إذ لو رجع أي قارئ كريم إلى كتاب حاكمة قرطاح باللغة الفرنسية (من تأليف نيكولا بو وكاترين قراسييه باريس 2009) لأدرك بيسر أنّ ما تطلع به الحكومة على الناس من قرارات وتوجهات وتعيينات وترقيات وتجميدات ليس إلا صدى لجولة من جولات المعركة الطاحنة التي تدور رحاها بين أجنحة القصر. وصل الأمر إلى حد أن تزوج هذه من بنات القصر من هذا لغرض سياسي قوامه تقوية هذا الجناح وإضعاف الآخر ثم تطليق هذه من هذا للغرض الخسيس ذاته.. عليكم بقراءة الكتاب بأنفسكم..

الترفيع في أسعار المحروقات يعكس أزمة خانقة جامعة.

أول سؤال يتبادر إلى ذهن كل مهتم متابع للشأن التونسي هو: إلى أي حد صمدت المعجزة التونسية التي نسجت خيوطها العنكبوتية بقالة مفادها أنه بالإمكان قيام حرية اقتصادية دون حرية سياسية وإعلامية. ذلك ضرب من ضروب التخبط الحكومي في تونس وأي تخبط أشنع من الفصل بين الحريات أي بين مختلف الأبعاد البشرية الكامنة في الإنسان الواحد أصلا ورسالة ومصيرا.. إنّ الإعلان عن الزيادات الأخيرة في مجال المحروقات يعكس دون ريب تهافت المعجزة التونسية الكذوبة إذ لو صمدت تلك القالة على أساس أن ينمو الإنتاج المادي ويعتدل توزيعه في مناخ موبوء يحطم كرامة الإنسان من خلال منظومة سياسية مغلقة.. لو صمد ذلك الاختراع العبقري لما اندكّ الاتحاد السوفييتي ذاته وفرط في ممتلكاته الواسعة الممتدة يفترسها خصمه الرأسمالي قطعة بعد قطعة.. هاهي التجربة التونسية تسير في الاتجاه ذاته وتوشك أن تلقى الحتف ذاته.. حتى لو غرك الغرور أو طال بك الأمد.. لأنّ القضية ليست قضية حبّ أو بغض أو أمل أو قنوط ولكنها قضية سنن مسنونة ماضية سيارة وأسباب مسببة عابرة موارة..

أول الأزمات: أزمة خيار.

تذبذب الخيار التونسي الحديث مترددا بين الخيار الاشتراكي في عهد بن صالح في الستينيات والخيار الرأسمالي في عهد المرحوم نويرة في السبعينيات (رأسمالية حكومية موجهة) وظل اللون الأبرز للخيار التونسي اقتصاديا هو لون التوجيه الحكومي الصارم والتحكم في القطاعين العام والخاص من مجال الصناعة الفلاحية أو القطاع الأولي كما يسمى حتى مجال الخدمات مرورا بالقطاع التحويلي. على ذلك الأساس تم في تونس أخطر توجه اقتصادي تعاني من ويلاته البلاد حتى يوم الناس أي ما سمي بقانون أفريل 1972 القاضي بفتح البلاد في وجه الاستثمارات الخارجية دون قيود ضريبية ومعلوم أن تلك الاستثمارات سيما في ذلك الوقت كانت غربية خالصة أي رأسمالية ليبرالية تخضع بالضرورة وتخضع البلاد التي تجتاحها باسم الاستثمار والحد من البطالة والتداين إلى المؤسسات المصرفية الدولية التي عجزت في أيامنا هذه عن مجرد الحيلولة دون وقوع الأزم المالة الراهنة التي لم يكن القطاع العقاري فيها إلا الشجرة التي أخفت الغابة قبل انكشاف الغابة وما تحويه من وحوش بشرية كاسرة فاقت فصيلة الحيوانات الجارحة في غرائز الجشع والنهم والقتل لأجل القتل والانتقام وليس لأجل لقمة العيش أو سد سورة الجوع..

تمثلت أزمة الخيار التونسي اقتصاديا إذن في الانخراط الكامل في السوق الدولية المنخرمة بالكامل لصالح طبقة الجشعين والمترفين وأنّى لها أن تقوم على مبادرة تنافسية في مثل تلك الأوضاع.. انخراط فاقد لكل شروط المنافسة بل حتى الاستفادة وليس أدل على ذلك من خضوع البلاد إلى شروط المصارف الدولية التي ترهن استثماراتها واستثمارات حلفائها وعملائها على المجالات الهشة والحقول الموسمية تأبيدا لحالة الفقر والخصاصة والحاجة إلى التدخلات الدولية تداينا وغير ذلك من مثل ما يقوم عليه الاقتصاد التونسي أي القطاع الخدماتي وعماده: الصناعة السياحية.. ألم يكن صعود الإرهاب الذي لا دين له ولا وطن ولا لسان دوليا منذ سنوات خلت مؤشرا خطيرا يجعل الحكومة التونسية تراجع خيارها الاقتصادي تعويلا على الصناعات السياحية المهددة بالإرهاب وانفتاحا على قطاعات أخرى أحرى بالبلاد تربة وموقعا وتاريخا من مثل القطاع الفلاحي من حيث هو صناعة فلاحية متطورة متقدمة تقوم على تزويد السوق الدولية بالمواد الخام بل بالثمرات الفلاحية الطيبة في عالم شمالي ينتشر فيه استهلاك (البيو) بعدما أهلك التلوث عندهم حرث الأرض وباء سوق الخلق فيهم بما بقي من نسل البشر.. أما ثالوث أزمة الخيار التونسي اقتصاديا (بعد ثنائي: الانخراط الخنوع للسوق الأوربية وشروطها المذلة + تقديم القطاع الخدماتي وتأخير القطاع الفلاحي صناعيا).. ثالوث ذلك الخيار الأزمة هو: تشجيع الاستهلاك استيرادا باهظا بالعملة الصعبة كما يقال على نحو تأخر فيه الإنتاج الثقيل ونصف الثقيل مما أثمر بالنتيجة المرة في بلاد يحكمها سوط السلطان سياسيا وإعلاميا: ذوبان الطبقة المتوسطة بعدما كانت هي الأكبر في تونس وبالضرورة إذن انتفاخ طبقة المحرومين وانتشار ظاهرة الفقر المدقع والحاجة المذلة ولعل بعض الظواهر الاجتماعية تفسر ذلك بيسر من مثل ظاهرة قوارب الموت والأمهات العزباوات والجريمة الجماعية المنظمة وقتل الأرحام وغير ذلك كثير لا يكاد يحصى ولعل آخرها: ظاهرة العجز الجنسي المخيف عند التونسي بمثل ما صرحت بذلك المؤسسات الاجتماعية الرسمية في البلاد (أنظر الحوار.نت نقلا عن تصريحات رسمية تونسية في بحر الأسبوع المنصرم بعد دراسة ميدانية شاملة).. أي بالنتيجة المرة: عامل آخر من عوامل اندثار التونسي وانسحابه من الحياة بسبب تراجع قيمة الأسرة وتفككها والعزوف عن الزواج وظاهرة العوانس من الجنسين.. مما حدا بالحكومة لأول مرة بعد أزيد من نصف قرن كامل أو قل بالأحرى لأول مرة في دولة الاستقلال.. لأن تشجع الإنجاب!!! ألآن وقد بحت صيحات المنذرين وجفت أقلام الإعلاميين.. ألآن وقد تصحرت البلاد كأنما كانت مسرحا لحرب حتى أغلقت بعض المدارس الأساسية أبوابها لعدم الحاجة إليها بعدما انقطع نسل التونسيين!!!

أول الأزمات إذن: أزمة خيار اقتصادي لا وطني لا اجتماعي لا أخلاقي.. (راجع لمزيد من الفائدة إصدار جريدة لوموند الفرنسية إصدار سنوي خاص بعنوان: الميزان الاقتصادي لعام 2010 راجع التقرير الخاص بتونس صفحة 94 تقرير صادر في 31 ديسمبر 2009)


ثاني الأزمات: أزمة دولة.

إلى أي حد أعاقت الدولة الحديثة نهضة الشعوب والمجتمعات؟ إلى أي حد كانت الدولة في خدمة الأمة أم أنّ الدولة والأمة بعد حصول تغييرات جذرية خطيرة جدا في القرون الأخيرة القريبة سيما القرن التاسع عشر والعشرين.. خطان لا يلتقيان؟ إلى أيّ حد تصدق مقولة: دولة الشعب أم أنّ الحقيقة هي: شعب الدولة؟ أسئلة عميقة طرحها بعض المفكرين المعاصرين من مثل: الدكتور النجار في السؤال الأول والدكتور برهان غليون في السؤال الثاني والشيخ الغنوشي في السؤال الثالث.

ذلك أنّ الدولة بنشأتها المعاصرة وتكوينها وعلاقاتها وامتداداتها كائن حديث جديد على مسرح الأمة الإسلامية. فمن هو الأصل ومن هو الحادث؟ ومن يخدم من؟ تلك إشكالات فكرية تشكل مفاتيح النهضة المعاصرة لمن أراد الإصلاح ولكن لا يتسع المجال لها هنا..

أزمة الدولة في تونس جلية لا تحتاج لكلام كثير.. تشترك مع أزمة الدولة العربية الحديثة في زمن التبعية الغربية والاحتلال العسكري المباشر أو ما يمكن أن نسميه من عندنا: زمن الافتراس الدولي دون رحمة ولا شفقة أي زمن المحارق التي تزيد من تجزئ الأمة وانقسامها وتأبيد تخلفها وسرقة ثرواتها وأسر حكامها بسلاح التهديد حينا والترغيب حينا آخر..

تشترك الدولة في تونس مع غيرها في ذلك ولكنها تختلف عنها في أمور أخرى منها خاصة: تدخل حكومي قوي ومباشر في دفة الاقتصاد المحلي إذ لم يعد الأمر كما هو في السابق (عهود بن صالح ونويره ومزالي) أي تدخلا حكوميا موجها في التجربتين الاشتراكية والرأسمالية ولكنه تدخل سافر ومما زاد الطين بلة أنّ بعض الأجنحة المتنفذة في قصر الرئاسة تراهن على التفوق المالي لحسم معركة الخلافة لصالحها مما استدعى وضع أيديها على كل مشروع اقتصادي يقترب رأسماله من كذا دينار.. تدخل بقصد إحكام السيطرة وتأبيد النفوذ في حين يتغنى الحكم بحرية اقتصادية ليس له منها إلا الاسم.. كما دخلت البلاد عالم الرشاوى الباهظة من جهة والمنتشرة من جهة أخرى بما لم تعهده في عصر بورقيبة.. أضحت الرشاوي اليوم بأكثر مما كنا نتندر به في عهد بورقيبة في بعض البلدان المشرقية (الشام ومصر).. كما استشرى الفساد على غير العادة نوعا ودرجة وهو فساد منشؤه بالأساس القصر الذي له فيه اليد الطولى..


ثالث الأزمات: أزمة مجتمع.

أضحى المجتمع على امتداد أزيد من عقدين كاملين مسرحا خصبا لخطة حكومية عملت على إذلاله وكسر جناحه وتأديبه بعصا البوليس والسجون والمنافي غير أنّ المجتمع اتخذ مسالك للمقاومة والتحصن لا تشتبك مع الدولة بأي حال من الأحوال إلا قليلا جدا لا يكاد يذكر لضعفه وندرته وطابعه الاستثنائي.. بكلمة: فر المجتمع مقاوما إلى مسالك أخرى فكانت النتيجة المرة: عجز المجتمع عن استعادة مؤسسته الدفاعية الحصينة التي أنشأها بيديه وبناها بتضحياته لتكون حصنا له من غول الدولة التي تريد ابتلاعه مرة بعد مرة ولو بالتقسيط.. الاتحاد العام التونسي للشغل.. لك أن تقول دون أدنى تحفظ بأنّ تونس أكلت يوم أكل الاتحاد وأنّ المترفين والمستكبرين فيها طغوا في البلاد وأكثروا فيها الفساد يوم نجح أولئك في وأد الاتحاد.. وقد نجحوا فعلا نجاحا كبيرا.. مع الإعلان الحكومي الرسمي المتبجح عن الزيادات في المحروقات حقلا حيويا يمس حياة كل تونسي وتونسية لك أن تذكر بأسى وأسف الذكرى التي مرت بنا قبل أسابيع (ذكرى ثورة الخبز في أواخر ديسمبر 1983 وأوائل 1984).. حيث اضطر بورقيبة على التراجع في خطاب علني رسمي مباشر.. أما اليوم وبعد أن سحق الاتحاد وسحقت معه مؤسسات اجتماعية وسياسية وحزبية وإعلامية وحقوقية كبيرة وكثيرة.. فقد خلا الجو للحكومة فهي اللاعب الوحيد في الساحة.. أزمة المجتمع هي إذن: توخّيه لمنهج في المقاومة يعتمد الفرار من وجه الحكومة والانغماس في اهتمامات أخرى تحت وطأة الحاجة حينا وتحت وطأة الحيرة حينا آخر وتحت وطأة اليأس حينا ثالثا.. من أكبر أزمات المجتمع: قعوده عن استخلاص الاتحاد الذي يحمي ظهره الفقير في مثل هذه الفاجعات..


رابع الأزمات: أزمة المعارضة.

المعارضة مشهد تونسي لا يغيب ولا يحضر. كانت المعارضة ضحية القمع اللامحدود ولكن كانت كذلك ضحية خلافات داخلية وانقسامات وتشرذمات يغلب عليها الطابع الشخصي في كثير من الأحوال. أكثر المعارضات التونسية لم تحقق الوحدة الداخلية المنشودة وبذلك لم تحقق الوحدة المطلوبة في حدها الأدنى بين بعضها بعضا. وعلى ضوء ذلك لم يكن من الممكن لتك المعارضة أن تتصدى لحملات القمع المتلاحقة المتواصلة الشرسة فضلا عن أن تتصدى للتحديات الاقتصادية والسياسية والثقافية والقومية التي تنخر البلاد.. لم تتجاوز أكبر المعارضات وأقواها مستوى البيانات أما التحركات والمبادرات والدراسات والتأثير في موازين القوة ولو بقدر يسير أو متدرج فلا حديث عنه.. لك أن تقول باطمئنان أنّ الدولة تخلصت من اتحاد الشغل ومن رابطة حقوق الإنسان ومن اتحاد الطلبة ثم من الإسلاميين ثم من المعارضات سواء من تحصن بالوحدة والثبات من مثل الحزب التقدمي الديمقراطي أو من تحصن بالدولة نفسها من مثل حركة الاشتراكيين الديمقراطيين.. تخلصت الدولة من كل ذلك بعصا البوليس وبقي المواطن وحدة عرضة لعنت الأسعار المرتفعة ليس له حتى حق الشكوى والأنين ورفع الصوت بذلك..

تلك هي أزمة البلاد في ضوء الترفيع في أسعار المحروقات.. أزمة جامعة من جهة وخانقة من جهة أخرى.. أزمة لم يسلم منها الخيار الاقتصادي ولا الدولة ولا المجتمع ولا المعارضة.. أزمة أثبتت أنّ أكذوبة الحرية الاقتصادية كفيلة بالقضاء على الاحتجاج على غياب الحرية السياسية.. هي أكذوبة سمجة.. أكذوبة لم تفلح حتى في الدكتاتوريات الشرقية التي حققت فعلا بعضا من المعجرات الاقتصادية في زمن ما ومكان ما فأنى لها أن تفلح تلك الأكذوبة في بلد مثل تونس لا وجود فيه لحرية اقتصادية إلا حرية أجنحة القصر في اغتصاب أموال الناس..


أزمة مرشحة لاقتراف المكروه والانفتاح على المجهول.

ليس ذلك من قبيل الأماني ولا يخضع للحب والبغض والأمل واليأس ولكنه يخضع للسنن الإجتماعية والأسباب الكونية.. طول الأمد لا ينسي الفاجعات والاستقرار المغشوش ليس مؤشر خير.. حوادث الرديف قبل زهاء عام ونيف وما حصل أخير في الصخيرة من حركة احتجاج سرعان ما قضى عليها البوليس بعصاه الغليظة وغير ذلك مما قد يجد ويحدث .. كل ذلك يعكس تململا دون ريب.. بل إنّ وجود مؤسسة مثل اتحاد الشغل قد يكون ضروريا لإمكانية تأطير حركات من مثل ذلك أما حدوث التململ غير المؤطر فلئن بدا اليوم صغيرا قليلا لا يكاد يؤبه له وبدت معه الحكومة بجيشها البوليسي المنتشر المدجج قوية مهابة مصانة.. فإنّ الأيام لا تطفئ جمرته ولا تذهب حسرته ولكن تراكم ذلك وتدخره حتى تلتقطه أيام أخر.. إذ أخطر ما تكون المواجهة مفتوحة بين الدولة والمجتمع دون مؤسسات تأطيرية.. قد يبدو ذلك بعيدا في تونس بل ميؤوسا منه.. ولكن ما ينبغي استبعاده بالكلية حسن قراءة في السنن والأسباب والتاريخ والتحولات حتى لو بدا كل شيء عدا ذلك مخالفا ومغايرا..


نحو اقتصاد وطني تونسي يجنّب البلاد الاهتزازات.


1 - اقتصاد ملون بلون الثقافة الوطنية التونسية علما وإدارة وخلقا كسبا وتوزيعا.

2 - الخروج من دائرة الهيمنة الأمريكية والأوربية وشروطها المجحفة إلى فضاءات عربية وإسلامية وآسيوية وإفريقية أخرى رحبة يقع فيها التعاون والتبادل على أساس الندية لا على أساس الاحتلال الاقتصادي سيما بعد دخول اتفاقية التجارة الدولية في الفاتح من يناير 2005 حيز التنفيذ وهي التي أسماها بحق متخصص اقتصادي دولي (الاحتلال الاقتصادي المعاصر)

3 - بناء اقتصاد اجتماعي يقوم على خروج الدولة من أسواق المال كسبا وتوزيعا بتحرير الفعاليات الاجتماعية المدنية الأهلية لولوج ذلك وقيام الدولة على حماية ذلك الاقتصاد المحلي من الغزو الخارجي من جهة وضمان تشريعات توفر تكافؤ فرص الكسب وفرص التوزيع بعدالة من جهة أخرى.

4 - بناء اقتصاد إنتاجي أساسي ينسجم مع تربة البلاد وموقعها وتقديم القطاع الأساسي الأولي أي قطاع الصناعة الفلاحية المتطورة بما يؤهل للبلاد دخول السوق الدولية بقدرة تنافسية معتبرة وتطوير الاستثمار الفلاحي الصناعي صناعة أولية وصناعة تحويلية حتى تستقيم موازين الاستيراد والتصدير ومن ورائها موازين الدفوعات والحد من التداين الخارجي وحل مشكلة البطالة ويستدعي ذلك بالضرورة تأخير القطاع الخدماتي والصناعات السياحية والحقول الهامشية بصفة عامة.


بكلمة: إنشاء منظومة اقتصادية اجتماعية أهلية تكون بمثابت صندوق التعويض الوطني الأصلي والأكبر يلجأ إليها في حالات الترفيع في الأسعار ومواجهة الأزمات المحلية والدولية أما احتكار الدولة لصناديق التعويض فلن يواجه الأزمات التي يجب تقديم استفحالها بدل تراجعها في زمن الافتراس الدولي بل يعرض البلاد إلى هزات واهتزازات..



الحوار.نت


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.