بعد إطلاق منصة مشتركة مع ليبيا وتونس.. وزير الداخلية الإيطالي يعلن تحرك عالمي لوقف تدفقات الهجرة غير النظامية    جبهة الخلاص تتضامن مع الرئيس الأسبق المنصف المرزوقي    الدعوة الى مواصلة التفاوض بتنفيذ المشروع لتدارك التّأخير الحاصل منذ سنوات    عاجل- قضية الافارقة غير النظاميين : سعيد يكشف عن مركز تحصل على أكثر من 20 مليار    إشارة جديدة من راصد الزلازل الهولندي.. التفاصيل    عاجل/ هجوم على مستشفى في الصين يخلف قتلى وجرحى..    هزة أرضية بقوة 4.9 درجات تضرب هذه المنطقة..    ورقة ضغط أم استكمال لحرب الإبادة؟ .. الاحتلال يدفع ب3 فرق لاجتياح رفح    يدعمون الصهاينة في الخفاء... ويعارضون المجازر في العلن.. غزّة تفضح ازدواجية الغرب    البطولة الفرنسية: ليون يحقق فوزا مثيرا على ليل بنتيجة 4-3    البطولة الانقليزية : كريستال بالاس يكتسح مانشستر يونايتد برباعية نظيفة    طقس الثلاثاء: امطار متفرقة مع تساقط البرد بهذه المناطق    سيدي حسين: مداهمة "كشك" ليلا والسطو عليه.. الجاني في قبضة الأمن    عاجل/ تقلبات جوية بداية من عشية اليوم وطقس شتوي بامتياز..    اتصالات تونس تنخرط في مبادرة "سينما تدور"    نشاط للهيئة العليا لوزارة أملاك الدّولة    مشروع لإنتاج الكهرباء بالقيروان    أميركا تتغيب عن الحضور: روسيا تشهد اليوم تنصيب بوتين رئيسا    تحقيق فلسطيني بسرقة 70 مليون دولار من البنوك في غزة    القمودي: مؤامرة تُحاك ضدّ تونس    أولا وأخيرا .. دود الأرض    سعيد.. سيحال على العدالة كل من تم تعيينه لمحاربة الفساد فانخرط في شبكاته (فيديو)    في لقائه بخبراء من البنك الدولي: وزير الصحة يؤكد على أهمية التعاون المشترك لتحسين الخدمات    صادرات قطاع القوارص ترتفع بنسبة 15,4 بالمائة    النادي الصفاقسي يوضح تفاصيل احترازه ضد الترجي    جامعة كرة القدم تحدد موعد جلستها العامة العادية    طقس الليلة: مغيم مع هبوب رياح قوية في كافة مجالاتنا البحرية    هل يساهم تراجع التضخم في انخفاض الأسعار؟.. خبير اقتصادي يوضّح    مدنين: حجز أكثر من 11 طن من الفرينة والسميد المدعم وحوالي 09 أطنان من العجين الغذائي    لأول مرة في مسيرته الفنية: الفنان لمين النهدي في مسرحية للأطفال    اتصالات تونس تنخرط في مبادرة 'سينما تدور'    الحمامات: القبض على إمراة أجنبية رفقة رجل تونسي وبحوزتهما أنواع مختلفة من المخدّرات    وفاة مقدم البرامج والكاتب الفرنسي برنار بيفو    وزير الداخلية يلتقي نظيره الليبي اليوم في تونس    رياض دغفوس: لا يوجد خطر على الملقحين بهذا اللقاح    بمناسبة اليوم العالمي لغسل الأيدي: يوم تحسيسي بمستشفى شارل نيكول حول أهمية غسل الأيدي للتوقي من الأمراض المعدية    فيديو/ تتويج الروائييْن صحبي كرعاني وعزة فيلالي ب"الكومار الذهبي" للجوائز الأدبية..تصريحات..    اختناق عائلة متكونة من 4 أفراد بالغاز المنزلي..    تصنيف اللاعبات المحترفات:أنس جابر تتقدم إلى المركز الثامن.    مدنين: استعدادات حثيثة بالميناء التجاري بجرجيس لموسم عودة أبناء تونس المقيمين بالخارج    بداية من مساء الغد: وصول التقلّبات الجوّية الى تونس    الفنان محمد عبده يكشف إصابته بالسرطان    عاجل/حادثة اعتداء تلميذة على أستاذها ب"شفرة حلاقة": معطيات وتفاصيل جديدة..    الرابطة الأولى: البرنامج الكامل لمواجهات الجولة الثالثة إيابا لمرحلة تفادي النزول    نسبة التضخم في تونس تتراجع خلال أفريل 2024    الفنان محمد عبده يُعلن إصابته بالسرطان    صادم: قاصرتان تستدرجان سائق سيارة "تاكسي" وتسلبانه تحت التهديد..    مطالب «غريبة» للأهلي قبل مواجهة الترجي    القيروان ...تقدم إنجاز جسرين على الطريق الجهوية رقم 99    بطولة الرابطة المحترفة الاولى (مرحلة التتويج): برنامج مباريات الجولة السابعة    أنباء عن الترفيع في الفاتورة: الستاغ تًوضّح    وزارة الشؤون الثقافية تنعى الفنّان بلقاسم بوڨنّة    جمعية مرض الهيموفيليا: قرابة ال 640 تونسيا مصابا بمرض 'النزيف الدم الوراثي'    مواطنة من قارة آسيا تُعلن إسلامها أمام سماحة مفتي الجمهورية    خطبة الجمعة ..وقفات إيمانية مع قصة لوط عليه السلام في مقاومة الفواحش    ملف الأسبوع .. النفاق في الإسلام ..أنواعه وعلاماته وعقابه في الآخرة !    العمل شرف وعبادة    موعد عيد الإضحى لسنة 2024    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحرق والانتحار لم يعد يجدي مع تفشّي الفساد في البلاد والعباد.
نشر في الحوار نت يوم 26 - 09 - 2016

حين أقدم محمد البوعزيزي على إشعال النّار في جسده احتجاجا على سوء تصرف السلطة المحلية معه لم يكن يعلم أن فعلته تلك ستكون بمثابة الشعرة التي قصمت ظهر البعير، وأن احتجاجه بذلك الشكل المأساوي شديد الفضاعة سيمهّد لثورة في تونس وفي بلدان عربية أخرى. حتّى أنّ كلّ من يريد أن يدفع عن نفسه ظلم المتنفّذين في السلطة أصبح يلتجأ إلى طريقة الانتحار حرقا (أحيانا بشكل إستعراضي يغلب عليه التصنّع). ولكن بمرور الوقت لم يعد لهذه الطريقة مفعول السّحر. وكأنّي بالمسؤولين وخاصّة الفاسدين منهم قد تعوّدوا على عمليات الإحتراق والموت الشنيع، فأستانسوا بها وتعوّدوا عليها، حتّى إنّها لم تعد تعني لهم شيئا. لذلك بات من الضروري اليوم أن يغيّر المحتجّون من أسلوب احتجاجهم. فهل يستطيعون تغيير طريقة ووسائل ونوعية الاحتجاجات؟
في سياق متّصل، طالعت منذ أسابيع قليلة، خبرا على أعمدة جريدة الصباح، مفاده أنّ مواطنا تونسيا مات متأثرا بجراحه بعد أن أقدم على حرق نفسه أمام وزارة العدل في يوم زفاف ابنته. وكان ذلك احتجاجا على تباطؤ وتلكؤ السلطة في رد الاعتبار له وتمكينه من استرجاع حقوقه بعد أن تحيّل عليه رجل أمن وانتزع منه مبلغ 61 ألف دينار. وكان من استتباعات هذا التحيّل أن قضى هذا الرجل سبعة أشهر بالسجن بسبب شيك بدون رصيد لم يستطع أن يسدّده في الآجال القانونية. وعندما خرج من السجن تمكن هذا المواطن من انتزاع اعتراف من المتحيّل بالاستيلاء على المبلغ المذكور ولكنه لم يتمكّن من استرجاع قيمة المبلغ. وظلّت القضية المرفوعة دون نظر. وكانت رهن المماطلة والتسويف من قبل عديد المسؤولين.
ثمّ بعد فترة وجيزة من هذه الحادثة، جدّ حادث ثان مماثل في علاقة هو الآخر بفساد السلطة، وتمثّل في إقدام المواطن وسام نصري على إحراق نفسه في مشهد تراجيدي فظيع، نتيجة حالة اليأس التي كان يعيشها بسبب تعنّت ومضايقات وابتزاز المسؤولين المحليين بمعتمديّة فرنانة من ولاية جندوبة التي بلغت حدّ تهديده بغلق مورد رزقه المتمثّل في مقهى إن هو استمرّ في مقاومته و تصدّيه لعمليّات الابتزاز التي يتعرّض لها من هنا وهناك.
هذه المشاهد والأحداث تدفعنا إلى استعراض الملاحظات والتساؤلات التالية :
1) إنّ عديد المسؤولين (وليس كلهم) ليسوا جديرين بتولّي المسؤولية وليسوا جديرين بهذه المناصب وهم لا يحظون بثقة المواطن. كلّ همهم بطونهم ودينهم الدينار. وأمّا مصلحة المواطن أو محاولة تلبية احتياجاته فهي آخر ما يفكّرون فيه. وهو ما يوحي بأنّ الثورة التي انطلقت شرارتها من موت البوعزيزي لم تستطع دفع العديد من المسؤولين إلى مراجعة أنفسهم وتغيير سلوكياتهم بما يتماشى واحترام كرامة الإنسان. وظلّت سلوكياتهم على حالها لا تحيد عن شعارات من قبيل : "أنا أو لا أحد" و "الأسد أو نحرق البلد" و "أنا وبعدي الطوفان". فكيف السبيل إذن للتصدّي لمثل هذه السلوكيات وهذه المظاهر ؟
2) لماذا يتباطأ المسؤولون على مختلف درجاتهم في إرجاع الحقوق إلى أصحابها وإنصاف المظلومين الذين تعرّضوا إلى مظالم لا يعتريها الشكّ من طرف المسؤولين الإداريين، في حين يسرعون في تطبيق القانون على المواطنين المخالفين حتّى ولو كان في الأمر شبهة أو التباس ؟ و لعلّنا نتذكّر جيدا كيف تمّ الإسراع بتنفيذ أمر وكيل الجمهورية بإيقاف وسجن موظّف البريد الذي امتنع عن تسليم البريد لموظّف بمحكمة توزر لم يستظهر بوثيقة التكليف. وعلى إثر الحادثة أغلقت مكاتب البريد أبوابها احتجاجا على إيقاف وسجن موظّف البريد المذكور بطريقة تعسّفية وعلى وجه السرعة. بينما تلكأ أعوان الأمن في تحرير قضية بزميلهم الذي تحيّل على مواطن وانتزع منه مبلغ 61 ألف دينار. وطالبوا المتضرّر بالصبر والتريّث ريثما يتم تسديد المبلغ بالتقسيط. وتلكّأ المسؤولون أيضا في فتح تحقيق في ملابسات حادثة انتحار وسام نصري رغم مطالبة أهالي فرنانة مرارا بذلك. هذه الصور جميعها تبرز بما يقطع الشكّ باليقين، أننا لا نزال بعيدين كل البعد عن احترام وتطبيق القوانين بدون تمييز ولا محاباة. وأنّه وإن حدث الإسراع بتطبيق القانون واحترام المؤسسات فإنما يحدث تأسيسا على نظرة وعقلية استعلائية واستبدادية وعلى رغبة جامحة في التسلّط والتكبّر والظّهور بمظهر القائل "ما أريكم إلاّ ما أرى وما أهديكم إلاّ سبيل الرشاد" و "يا أيها الملا ما علمت لكم من إلاه غيري".
3) في بداية الثورة تصالح المواطن مع رجل الأمن وشاهدنا العديد من الصور عبر وسائل الإعلام التي تجسّد هذا التصالح حيث يسلّم رجل الأمن على المواطن ويحتضنه ويهشّ له. وفي الأشهر الأولى للثورة لا يكاد المواطن يشاهد دورية أمن تأمر سيارة بالتوقّف. إلّا انّه، وبعد أن استتبّ الأمن وبدأت الدولة تسترجع أنفاسها، شرع العديد من الأعوان يعودون شيئا فشيئا إلى ممارسات وسلوكيات أيام النظام البائد. فاستأنفوا إيقاف السيارات والبحث والتدقيق فيها وفي وثائق صاحبها إلى حين التفطّن إلى مخالفات وتسجيلها قصد الحصول على عمولات ورشاوى. يمكن ملاحظة مثل هذه السلوكيات المشينة، للأسف، صلب كل الإدارات والمؤسسات الحكومية. إلّا أنّ اللّافت للإنتباه هو انّها، تفاقمت كثيرا بعد الثورة لتصبح ظاهرة تبعث على التساؤل. وهو ما تشير إلىه كل المؤشرات وفق عديد الدراسات الصادرة عن مختلف المنظمات ومراكز الدراسات. فلماذا يتعمّد بعض رجال الأمن وبعض الموظفين تجاوز القانون ويسعون لاستغلال مناصبهم وابتزاز المواطنين ليلا نهارا ؟ إنّهم يفعلون ذلك لأسباب عديدة أهمّها وأوّلها غياب الوازع الديني الذي يمنع من ارتكاب المحرمات. فكما هو معلوم تعرضت تونس في عهد المخلوع الأول والمخلوع الثاني إلى موجة تغريب رهيبة وإلى حملة تجفيف المنابع أثّرتا بالتأكيد على الوازع والوعي الديني. فكان من نتائج ذلك أن ضاعت القيم بين الناس حتى أصبحت الرشوة تسمّى عمولة وحقّا مكتسبا لتسهيل مصالح الناس (افرح بيّ). وأصبح العري والتبرّج مظهرا من مظاهر التمدّن والحرية الشخصية... وثانيها أنّه ليس هناك سياسة ردعية واضحة تجاه أو ضدّ كل أصحاب التجاوزات. لذلك مازال الموظّف يعتقد أو يشعر بأنّه لا يزال محميا من كبار المسؤولين أو مما يسمّى بالدولة العميقة. فلو كان الموظّف يعلم أنّه سيتعرّض للمساءلة الفورية وللتتبعات العدلية الصارمة، إن سوّلت له نفسه الخبيثة ارتكاب تجاوزات أو الدخول في شبهات فساد، لما كان يقدم على ارتكاب التجاوزات. ولكنّ الفساد يحمي بعضه بعضا. فالفساد الكبير يحمي الفساد الصغير والفساد الصغير يسهّل الأمر للفساد الكبير حتى يستوطن ويستبدّ بالبلاد والعباد. فلو كانت للحكومة إرادة سياسية قويّة في محاربة التهريب واتخذت في شأنه قرارات صارمة وجريئة لما تجرّأ الموظفون وأعوان المراقبة على تعاطي الرشوة وتسهيل الأمر على المهربين الكبار حتى يهرّبوا السلع ويخربوا اقتصاد البلاد والعباد. أحيانا يتفطن عون الأمن إلى عملية تهريب واسعة فيحرّر محضرا في الغرض. فيصدر تبعا لذلك قرار من السلط العليا بترقيته وإبعاده عن مهمّة المراقبة أبهذه السياسة يمكن لنا محاربة الفساد الذي قضت عليه سنغافورة باستراتيجيا واضحة وبسيطة جدّا ؟ فقد سألوا مؤسس سنغافورة لي كوان : ما هو الفرق بين سنغافورة ودول العالم الثالث ؟ فأجاب لي كوان نحن نشتري الكتب وهم يشترون السلاح. نحن قضينا على الفساد وهم يقبضون على صغار اللّصوص ويتركون كبارهم.

أمام هذا الوضع المتعفّن فإنّه لا يمكن للبلاد الإقلاع والطيران بجناح واحد. ذلك أنّها كلما أرادت أن تطير إلا وسقطت من جديد لأنّ جناحها الثاني مكسور بمفعول سطوة وفساد رجال النظام السابق الذين يأبون أن يصلحوا من شؤونهم لأنّهم تربّوا على الفساد في ظل نظام الاستبداد. نعلم جيّدا أنّ الحوار الوطني والتوافق مطلوبان خاصة في ظل الفترة الانتقالية ولكن بهما فقط لا يمكن تدعيم ركاز الدولة المدنية ولا يمكن تحقيق أي إقلاع اقتصادي وتنموي حقيقي. في ظلّ هذا الوضع لا بد للمخلصين من المناضلين في كل دوائر القرار أن يعملوا على الدفع باتجاه العمل على إعداد خطة وطنية شاملة للقضاء على الرشوة والفساد ولو على مراحل وإلا فنحن مقبلون إن آجلا أو عاجلا على ثورة جديدة. ولن تكون هذه المرّة سلمية كما أنّها لن تبدأ هذه المرة بحرق المواطنين لأنفسهم . والمرجّح أنها ستأتي على حرق المسؤولين والمفسدين الذين لم يتعظوا بما حصل. وعندئذ يندم المفسدون حين لا ينفع النّدم قال الله تعالى : "وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم مَّا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُم بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ" الآية ( سورة إبراهيم الآية 22)
منجي المازني


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.