لم تشهد حرية التعبير والصحافة في تونس انتهاكات وتضييقات بقدر ما يحدث في الآونة الأخيرة. فبعد محاكمة بن بريك وسجنه تعرّض الصحفي الزميل الفاهم بوكدّوس بدوره لغضبة الثور الهائج وحوكم وسجن على خلفية تغطيته لأحداث الحوض المنجمي وفضحه للأسباب الحقيقية لتلك الانتفاضة التي قام بها بعض أبناء هذا الشعب من أجل الشغل والعيش الكريم في وجه الفساد والظلم المسلّط على المنطقة المنسية. ومن المنتظر أن يمثل الزميل المولدي الزوابي للمرة الثانية أمام أنظار الدائرة الجناحية بمحكمة ناحية جندوبة يوم 4 أوت المقبل في القضية التي تحول فيها من متضرر إلى متهم ب"الاعتداء بالعنف والقذف العلني" في ظل انتهاك خطير لأبسط الإجراءات القانونية. ولئن كان الانتهاك في حق الزميل المولدي خطيرا إلا أنه ليس الأول في حقه، فقد حوكم سنة 2006 بتهمة الثلب عن طريق الصحافة طبق الفصلين 50 و52 من مجلة الصحافة في القضية عدد 3536 بالمحكمة الابتدائية بجندوبة وذلك على خلفية مقال نشر بجريدة الموقف بتاريخ 18 مارس 2005 تعرض فيه لمعاناة مدرسي التعليم الخاص والظروف المهنية والاجتماعية التي يعيشونها. وبذلك حصل الزوابي على شرف لقب أول صحفي يحاكم بموجب مجلة الصحافة في عهد النظام القائم، حيث يعمد النظام دائما لمحاكمة الصحافيين المستقلين والأصوات غير المدجّنة بموجب قضايا حق عام تحوّل الصحافي والإعلامي من شخص مثقف منخرط في قضايا شعبه إلى مجرّد صعلوك أو بلطجي يعتدي على الذوات والممتلكات ويمتهن القانون، بحيث يجد النظام بذلك مخرجا من الاتهامات التي قد توجّه له بخنقه لحرية الصحافة من جهة ويشوّه صورة الصحفي في محاولة لتفتيت التعاطف الذي قد تتلقّاه قضيته محلّيا ودوليا. ولئن لم يفلح من وقف وراء القضية المرفوعة ضدّ الزوابي سنة 2006 في تحقيق مبتغاه على الوجه الذي خطّط له فبرّأ القضاء بدرجاته الثلاث ساحته بحكم يقضي بعدم سماع الدعوى، فإن السلطة لم تن تلاحق الزميل وتطلق في وجهه كل ألاعيبها وأساليبها. فقد تعرض في مناسبات عديدة إلى اعتداءات بلغت حد الاختطاف وإشهار السلاح في وجهه واحتجازه لساعات طويلة. ولنذكر على سبيل النثال لا الحصر الاعتداء والإيقاف التعسفي بمركز شرطة مرور بوسالم (05 ديسمبر 2007) أثناء قيامه بتصوير حريق شب بأحد الأسواق اليومية وبمركز الحرس الحدودي ببوضلعة ( 13 ماي 2008 ) بسبب تصويره لملف حول الفقر بالمنطقة وبمراكز أمن أخرى من بينها مركز مونبليزير بتونس العاصمة (28 جانفي 2010) عندما كان متوجها لمحاورة الدكتور بوعبدلي رئيس الجامعة الخاصة، وغيرها من الانتهاكات والإيقافات التي من شأنها أن تجعل من مراكز الأمن وقبضات البوليس محطّات قارة للصحفي المستقل. وقد ترافقت الاعتداءات دائما بافتكاك أدوات عمله الصحفي وبعض ملابسه فضلا على تلفيقهم تهما أخرى واعتداءات متنوعة طالت أفراد أسرته تراوحت بين التهديدات بالسجن والمداهمات في ساعات متأخرة من الليل وإخراجه بواسطة القوة العامة من مكتب خاص به والضغط على أحد أصحاب الكتاتيب لحرمان ابنه البالغ من العمر 4 سنوات من التعلم وغيرها . هذه اللمحة العابرة حول ما تعرض له الزميل الزوابي من تضييقات تضع أقدامنا على طريق فهم خلفية هذه المحاكمة الأخيرة. فالمتابع لما يكتبه المولدي الزوابي وما يصوره وما يذيعه عبر موجات راديو كلمة وما ينشره بجريدة الموقف وما كان بثّه في قناة الحوار التونسي من تحقيقات تقودنا إلى اعتبار أن التحقيقات الاجتماعية والاقتصادية والحقوقية والسياسية التي تناولها ساهمت في كشف الصورة الحقيقية لخيارات السلطة وأزالت الزيف عن بهرجتها الدعائية ومسحت المساحيق عن الإنجازات الوهمية التي يتشدّق بها الحكم، كما فضحت البون الشاسع بين الخطاب الرسمي الذي تتغنى به السلطة وواقع يبعد فيه واقع المواطنين الاقتصادي والاجتماعي خاصة ومطالبهم الحياتية اليومية عن ذلك الخطاب مسيرة سنوات ضوئية. تلك التحقيقات التي وضعت أسئلة هامة وعميقة حول استشراء الفساد الإداري والمالي في عديد القطاعات الحساسة وفي عدد من جهات البلاد خاصة منها في مناطق الشمال الغربي التي أهملها ونسي وجودها الإعلام الرسمي وشبه الرسمي - تلك المناطق التي كان بالإمكان أن تكون "جنة" أو "مطمورة" جديدة لو احترمت خيراتها وكفاءاتها وحقوق مواطنيها ولم تنتهب - والتي كشف من خلالها الزميل عن جملة من التجاوزات المرتكبة في حق المجموعة العامة وهدر لطاقات بشرية واقتصادية وطبيعية هامة بقيت بعيدة عن الاستثمار الذي يمكن أن يفتح آفاق تنموية قادرة على امتصاص الفقر والبطالة لعشرات الآلاف من المهمشين، هي في أصل القضية وفروعها – وما دمنا في رحبة القضاء فلنستعمل مصطلحاته – وهي الكابوس المقيم للنظام الذي يحاول بكل الوسائل أن لا يتحوّل الشمال الغربي إلى حوض جديد، وأن يخفي حقيقة فشله في إرساء تنمية عادلة، وهي السبب الذي لأجله يسعى الحكم لإخراس كل صوت يرتفع ليلفت الأنظار لما يجري من جرائم في حق مواطني الجهات المنسية، وكان الزوابي ذاك الصوت المقضّ لمضجع السلطة. من هنا يمكننا أن نقول أن محاكمة الزميل الزوابي تندرج في سياق كتمان الأصوات الناشزة عن الجوقة الرسمية وتصفية حسابات السلطة مع خصومها الإعلاميين المستقلين والمعارضين الذين تبنوا الدفاع عن المصلحة العامة بل هي محاكمة لوسائل الإعلام المستقلة والحرة التي يعمل الزميل لفائدتها، في سعي منها لإخراسه وإخراسها. ولكن كذلك عقابا له على التجائه إلى القضاء والى السلط الإدارية. فمعلوم أن الزميل الزوابي كثيرا ما تقدم شاكيا للمحكمة كلما تعرض إلى انتهاك أو اعتداء من بينها الشكاية التي قدمها ضد رئيس المركز سمير السعيدي وأخرى ضد رئيس فرقة الإرشاد عمار العبيدي ولطفي الورقلي وشعبان العزيزي والطاهر العرفاوي والتي حفظت لعدم كفاية الأدلة رغم شهادة شهوده وتقديمه شهادة طبية تضمنت راحة ب 18 يوم وأخرى ضد رئيس فرقة الأبحاث والتفتيش المدعو علي القايدي ورئيس مركز حرس بوعوان منير البريني ورئيس مركز الأبحاث الناصر الهذلي اللذين اختطفاه ليلا ورميا به في إحدى المسالك الفلاحية بعد أن افتكا منه أدوات عمله وملابسه والتي لم تقرر النيابة العمومية بعد في شأنها أي قرار رغم تقديمها منذ يوم 10 جويلية 2008 . ولعل الاعتداء الأخير الذي تعرض له الزميل في غرة أفريل 2010 والذي بلغ حد افتكاك بطاقته الصحفية ووثائقه الشخصية ووسائل عمله فيه - وقلبت فيه السلطة الوقائع فحوّلت الضحية إلى جلاّد والمعتدي إلى ضحية - يحمل دلالة على عزم السلطة تجريم الزميل وتصفيته بتوظيف جديد للقضاء لم يعد غريبا عنها وهو ما يدل على ضيق صدر السلطة بأصوات من لا يمتثلون لها. فهل سيلعب القضاء دوره الحقيق به ويتخذ موقفا ينصف الزميل ويبرئ ساحته أم ستتكرر مهزلة التوظيف من جديد وتلفيق القضايا والأحكام الجائرة، وتسجّل بلادنا درجة أخرى على سلّم التقهقر في مجال الحريات؟