"السلطة للشعب"، كانت تلك العبارة البسيطة في شكلها، العميقة في معناها، مكتوبة على الجدران العتيقة لكاتدرائية سانت فنست دي بول التي بنيت في عهد الاستعمار الفرنسي، حين اندلعت ثورة الياسمين، لتبدأ معها مرحلة الثورات العربية. تحت هذه الكتابة، في نفس المكان في شارع الحبيب بورقيبة في العاصمة التونسية، وفي كل وقت تقريباً، ستجد متشرداً يعيش تحت هذا الحائط، حيث يتوقف العابر برهة متأملاً هذا المشهد: ربما كانت مجرد خربشة على جدار متهالك ينام تحته كهل مسكين. بالنسبة للبعض، يستمد هذا الرجل البائس قوته لمواصلة كفاحه في هذه الحياة القاسية من تلك العبارة. بالنسبة لآخرين، هذه مجرد فكرة حالمة، فهذا الرجل ربما لا يعرف القراءة أصلاً. مما لا شك فيه أن هذه العبارة تمثل إلهاماً لأجيال متعددة من التونسيين ممن سعوا إلى التحرّر من الديكتاتورية. كانت هذه الجملة هي مفتاحهم السحري ليجدوا أخيرا فرصتهم للتعبير عن مشاكلهم. بعد ثورة يناير 2011، صارت الجدران أوراقاً وأدوات الرش أقلاماً والشوارع دوراً للنشر. انتشرت ال"غرافيتي" في تونس بشكل واسع، يكاد لا يخلو منها شارع، وهي تتكون أغلبها من رسومات وشعارات تتحدث عن مطالب اقتصادية واجتماعية وسياسية. يقول إلياس الماجري، العضو في مجموعة" أهل الكهف"، وهي واحدة من أشهر مجموعات ال"غرافيتي" التي ظهرت بعد الثورة: "اسم مجموعتنا مستوحى من قصة أصحاب الكهف الذين اختبؤوا هرباً من بطش الملك، وهذا المعنى يرتبط بظاهرة انتشار الغرافيتي في تونس بعد سقوط زين العابدين بن علي". بالنسبة لهؤلاء الشباب، تؤسس هذه الظاهرة أيضاً لمنظومة الفن البديل. أولى لمسات ال"غرافيتي" التي طفت على السطح وبرزت بقوة كانت في اعتصام القصبة، وهي ساحة الحكومة في المدينة العتيقة، حيث طالب المحتجون بالإطاحة بحكومة محمد الغنوشي التي جاءت مباشرة بعد هروب بن علي. تحوّلت ساحة القصبة وقتها، حيث توجد مقرات الدولة السيادية، إلى معرض لل"غرافيتي"، بمشاركة فنانين جاؤوا من مختلف أنحاء العالم للمساهمة في هذا الحدث. واستمرت تلك المرحلة حتى موعد الانتخابات، حيث يمكن الحديث عن تحول أساسي في ظاهرة الغرافيتي" التونسي. بعد فوز "حركة النهضة"، ذات التوجه الإسلامي، في انتخابات تشرين الأول 2011، بدأت ال"غرافيتي" بالعودة إلى جذورها الأصلية وعاداتها التقليدية المنبثقة من الستينات في نيويورك، وصار يمارس هذا الفن غالباً في سرّية تامة. يحكي أحد الناشطين عن التجربة: "صرنا نخرج في الليل، عندما تخلو الشوارع من المارة، بعيداً عن أعين البوليس. نغطّي وجوهنا، نختار حائطا ونرسم عليه ثم نرحل بسرعة. نحن لا نبحث عن جمهور يصفق لنا ولا عن مال مقابل عملنا، نحن فقط نريد نشر فكرة وإيصالها إلى الرأي العام". أسباب كثيرة تدفع الشباب إلى الالتجاء لهذا الفن بالذات للتعبير عن أفكارهم. "لم نعد نجد أحداً يتحدث عن مشاكل البطالة والفقر والتهميش. فقررنا القيام بذلك بأنفسنا"، يشرح أسامة بو عجيلةو يضيف: "لماذا الغرافيتي بالذات؟ لأنه أنجع طريقة في التواصل مع بقية أفراد الشعب. هذه الوسيلة أكثر فعالية من الانترنت، فأنت تنشر الوعي وتقدّم مطالبك على أرض الواقع وليس على حائط وهمي كالفايسبوك". الجدير بالذكر أن أسامة وصديقه شاهين بالريش ينتميان إلى مجموعة "زواولة". ويعني الاسم باللهجة التونسية: الفقراء. وقد ألقي القبض على الشابين وهما بصدد الكتابة على أحد الجدران، ووجّهت إليهما تهم تتعلق بالكتابة على عقارات عمومية من دون رخصة، ومخالفة قانون الطوارئ، بالإضافة إلى نشر أخبار زائفة من شأنها تعكير صفو الجو العام. في زمن قصير، أخذت هذه القضية منحى آخر، وتحوّلت إلى قضية رأي عام ذات بعد دولي، خاصة ان الكتابات التي تمّ التركيز عليها في القضية، مثل "الزوالي ميت حي في تونس"، كانت تعبيرا عفويا عمّا يعيشه المجتمع في تونس في هذه الفترة الحساسة. تناول الإعلام هذه القضية بشكل مكثّف، وانتشرت حملة من رسومات ال"غرافيتي" لمساندة هذه المجموعة، حملت شعارات تدافع عنها، مثل: "الغرافيتي ليس جريمة… الحريّة لزواولة"، أو "حق التعبير واجب… حق الزوالي واجب". تبنّت قضية "زواولة" شخصيات وطنية عدّة، مثل المناضل شكري بالعيد الذي اغتيل في شباط الماضي، والذي طالب بإطلاق سراحهما قبل مقتله، وقال في شأن محاكمتهما إنها غير عادلة. كانت قضية "غرافيتي زواولة" تهديداً صريحاً لحرية التعبير في تونس ما بعد الثورة، حيث دعت منظمة العفو الدولية إلى الإفراج عن هذه المجموعة، مؤكدة على أن لا مبرر لتهديدهم بالسجن بسبب ممارستهم حقهم في حرية التعبير. خلقت ال"غرافيتي" وعياً بصرياً لدى المواطن التونسي، وانتشر هذا الفن وصار مقبولاً أكثر فأكثر في المجتمع، بالتزامن مع تنظيم ورشات وإنتاج أفلام وتنظيم ملتقيات للتعريف به. وترافق ذلك مع محاولة "تدجينه"، حيث أقامت السلطة ساحة في شارع الحبيب بورقيبة سميت "غرافيتي الثورة". وسادت في ظل الحكومة التي تقودها "حركة النهضة" ريبة من تعامل "الإسلاميين" مع هذا الفن ونظرتهم إليه. يقول هاني نعيم، مؤلف كتاب "غرافيتي الانتفاضات: رحلة إلى كواليس لغة الشارع"، "أن الغرافيتي لا يمكن أن يتأثر بالقاموس الرسمي المستخدم في الحياة السياسية، فلا يمكن أن يؤثر فيه أي تيار سياسي يحكم البلاد، حتى لو كان تيارا إسلاميا محافظا، كما هي الحال في تونس مثلا. العكس هو الصحيح. فمع الأوضاع الاقتصادية المتدهورة والحالة الاجتماعية المتردية تتّسع دائرة فن الكتابة على الجدران شيئا فشيئاً على كامل تراب الجمهورية". قبل أيام قليلة، أفرجت السلطات عن مجموعة "زواولة"، واكتفى القضاء بتغريمهم مبلغا قدره 60 دولارا. هذا الحكم المخفّف أعطى بارقة أمل بمواصلة انتشار هذا الفن والإقبال عليه بين الشباب. ال"غرافيتي" بلا شك هو أحد رموز الثورة التونسية، بوصفه يندرج في إطار حرية التعبير، وهي بالنسبة للبعض المكسب الوحيد الذي تحقق بعد الثورة. لكن المخاوف من التضييق على هذا المكسب تظلّ قائمة، في ظل حكومة بدل البحث عن الحلول للمشاكل الحقيقية التي تعاني منها البلاد، تنصرف لاتخاذ إجراءات تصب في التضييق على المعارضين، منها مثلا: القبض مؤخراً على شاب يغني ال"راب"، بسبب أغنية ينقد فيها البوليس والحكومة، والحكم عليه بالسجن لسنتين!