أخيرا أفاق عثمان بطيخ مفتي الجمهوريّة من سباته الطّويل و أقرّ بعدم جواز "جهاد المناكحة" معتبرا فلسطين دون غيرها أرضا للجهاد دون أن يجرؤ على تحريمه صراحة في سوريا. هل كان غافلا عن الأحداث؟ ألمْ يكن مفتي الجمهوريّة على علم بأن العديد، بعضهم من بائعي الخُضر وبعضهم من أصحاب السّوابق وجلّهم لا يحسن القراءة والكتابة، قد اختصّوا باختصاصه و امتهنوا مهنته وأجازوا لأنفسهم حقّ الإفتاء ؟ لمَ لمْ يفتِ بعدم جواز فتاويهم ؟ خلافا لنسق النّمو الاقتصادّي و ظروف التّعليم ومستوى المعيشة وسلامة المواطنين، يشهد "مجال الإفتاء" ازدهارا لا يضاهيه إلا ازدهار تجارة كُتب عذاب القبر ورواجا لا يقلّ عن رواج حبوب الفياغرا. جميع المؤشّرات تبعث على الاعتقاد أنّ له مستقبلا واعدا في تونس. الافتاء صار قرِين الفُتوّة، وإذا القومُ قالوا من فتىَ خال الأئمة أنّهم معنيّون فلم يكسلوا ولم يتبلّدوا. بين عشيّة وضحاها أصبح الإفتاء من تفاصيل الحياة اليوميّة، أصبح المُحدّد والمرجعيّة. الإفتاء، تماما كتجارة السّلاح وتجارة الزّطلة وتجارة التّهريب وعصابات العنف السّياسي ومِنح أعضاء المجلس التّأسيسي وغيرها من الظّواهر الثّوريّة الحديثة، تعامله السّلط بمبدأ "دعه يعمل، دعه يمرّ". يكفيها تشجيعا له أن توفّر له المستنقع اللاّزم حتّى يترعرع وأن تغضّ عنه الطّرف حتّى يكون متماسكا قويّ البنيان ساعة تدقّ طبول الحرب. إنّه العنصر الأخير من عناصر المعادلة. الإفتاء سلطة تشريعيّة و قضائيّة موازية. إنّه لا يُحدّد فقط الجوانب الدّينيّة و الأخلاقيّة للمجموعة، بل هو اختزال دينيّ للقوانين الجزائية وقوانين المرأة والطّفولة والصّحافة وربّما كذلك، تعويضٌ لقوانين الطّبيعة بقدرته على تحديد منْ يحقّ له أن يحيا ومنْ يجب عليه أن يموت… إنّه باختصار، أخطر من أن يكون سَحقًا و تعويضًا للقوانين الوضعيّة. فهو باحتكاره النّطق باسم المقدّس، يُنصّب نفسه سلطةً مُطلقة تتجاوز رقعتها المنضوين في هذه المرجعيّة الدّينيّة. قد يصعب أن نتخيّل أن يَحتكر الأئمّة سلطة القضاء وأن تندثر المحاكم. وقد يصعب أن نتخيّل أن تُسحب صلاحيّات التّشريع من السّلطة المُنتخبة لذلك ليختصّ بها "مجلس اسلامي أعلى" أو أن يكون هذا المجلس أشدّ بأسا من المحكمة الدّستوريّة. نعم، يصعب أن نتخيّل ذلك، ولكن هذه الصّعوبة لا تنفي المساعي الانزلاقيّة المُمنهجة والحميميّة لذلك. منذ وقت ليس بالبعيد، لم يكن من الممكن، بل كان من المستحيل أن نتخيّل مجموعات العنف السّياسي تشدّ أوزار رجال الأمن وتساهم معهم بما تيسّر من الرّكل والضرب والرّفس للمتظاهرين. أثبتت الأحداث في تونس أنّ الثّورة هي فنّ الممكن و أنّ الإبداع الثّوري لبعضهم له القدرة على تجاوز جميع تحليقات الخيال. إن كان من الصّعب أن نتخيّل اندثار المحاكم، فمن الممكن جدّا أن نتوقّع يوما يجلس فيه المفتي إلى جانب القاضي وأن يتشاورا و يتبادلا الآراء حول القضايا والأحكام أو أن يُجبر القضاة على النّجاح في مناظرة من تنظيم كليّة الشّريعة و أصول الدّين. لم لا ؟ السّلطة التّنفيذيّة تنازلت عن جزء كبير من مهامها لفائدة الجماعات الدّينيّة ولم يعد الأمن مجال اختصاص رجال الأمن ولم تعد القوات المسلّحة حكرا على أجهزة الدّولة فما الذّي يمنع السّلط الأخرى من ذلك؟ لا يمكن أن يكون ذلك صدفة أو انفلاتا لا يخضع للسّيطرة. إنّه خيار مدروس ونفس هذا الخيار هو الذّي يَرعى الآن رويدا رويدا تعويض سلطتيّ القضاء والتّشريع بسلطة الفتاوى. و مثلما ترك أولو الأمر منّا الحبل على الغارب لعصابات الشُرَطة (بفتح الرّاء) يتركونه الآن لمحترفي الإفتاء. هذا الخيار المدروس هو الخطر الأكبر على العقد الاجتماعي. إنّه الأداة للإطاحة به تمهيدا لحرب الفتاوى. ** انيس منصوري جامعي تونسي مقيم بباريس