"رينو" تكشف عن سيارة كهربائية فرنسية مزودة بتقنية "تشات جي بي تي    أسعار النفط تسجل أكبر انخفاض أسبوعي منذ أكثر من سنة    أزمات "بوينغ" تنعكس على موردة مكونات الطائرات "سبيريت"    الحكم على نور الدين البحيري ب 10 سنوات سجنا في قضية "التدوينة"    الجولة السابعة لبطولة النخبة لكرة اليد .. «دربي» مُثير بين النجم والمكارم    البطولة الإفريقية لكرة اليد...جمعية الساحل بروح الأبطال    كيف سيكون طقس السّبت 19 أكتوبر 2024؟    وزير التجارة يتابع مسالك التزود بالمواد الأساسية ويتعرف على اهم الإشكاليات المتعلقة بالتوزيع في تطاوين    الباحث السياسي الفلسطيني أشرف عكة ل«الشروق»...المعركة تتّجه نحو لحظة تاريخية فارقة    سوسة: معرض "تحف زخرفية ولوحات فنية'' يحتضن إبداعات 100 شاب وشابة من منظوري المؤسسات الاجتماعية    بشرى سارة/ مع انطلاق موسم الجني: تقديرات بإنتاج 206 آلاف طنّ من الزيتون بهذه الولاية..    عائدات بقيمة 1196 مليون دينار لصادرات المنتوجات الفلاحية البيولوجية    البنك المركزي يتوقّع تحسن النمو الاقتصادي على نحو تدريجي سنة 2024    القسط الرابع من القرض الرقاعي الوطني: القيمة والموعد    عملية سرقة تكشف عن شبكة مختصة في نشاط الرهان الإلكتروني وتبييض الأموال وجرائم المخدّرات    بلاغ مروري بمناسبة المقابلة الرياضية بين الإفريقي والنادي الرياضي الصفاقسي    الدورة ال28 من المهرجان الدولي للأغنية الريفية والشعر البدوي بالمزونة من 1 الى 3 نوفمبر القادم    وزيرة الشؤون الثقافية تستقبل السفير التركي بتونس    الآن: أمطار بهذه المناطق ومن المنتظر ان تشمل ولايات اخرى    صفاقس :الاجوار يتفطنون الى تواجد جثّة امراة متعفّنة بالمدينة العتيقة    عدد جديد من مجلة "تيتيس": كاتب ياسين ... في الذاكرة    تونس : القضاء بنسبة 90% على الباعوض الناقل لحمى غرب النيل    نقيب الصحفيين: وضعية الصحفيين المسجونين سيئة    عاصفة شمسية قوية قد تعطل الإنترنت لأسابيع...ما القصة ؟    بوتين يدعو عباس للمشاركة في قمة "بريكس"    بودربالة يلتقي نائبا بالبرلمان الليبي ترشح لرئاسة البرلمان العربي    بالفيديو: لطفي بوشناق يكشف تفاصيل صدمته وفقدانه النطق    حركات المقاومة تنعى السنوار وتؤكد استمرار النضال ضد إسرائيل    مراكز الإعلاميّة تواصل تسجيل الأطفال وقبولهم بمختلف الدورات التكوينيّة    نقلته اسرائيل الى مكان سري.. ما مصير جثمان السنوار؟    إحصائيات تكشف: أغلب المتسوّلين ليسوا فقراء.. وهذا ما يجنونه يوميا!!    الرابطة الأولى: برنامج النقل التلفزي لمواجهات الجولة الخامسة ذهابا    كميّات الأمطار في عدد من مناطق البلاد    عاجل/ جريمة القتل بالذبح في قصر هلال: الأمن الوطني يكشف التفاصيل    11795 قطعة أثرية قرطاجية في أمريكا ... المعهد الوطني للتراث يكشف    عاجل : الاعلان عن موعد التصريح بالحكم في قضية سنية الدهماني    مسرحية "ما يضحكنيش".. مداخيلها لفائدة قربة اس او اس سليانة    الحماية المدنية تدعو مستعملي الطريق بولاية تونس إلى الحذر أثناء تساقط الأمطار    عاجل: أمطار غزيرة في المنستير    وزير الشباب والرياضة يتسلّم شهادة اعتماد دولية للمركز الوطني للطب وعلوم الرياضة    مفتي الجمهورية في زيارة لشركة مختصّة في انتاج زيت الزيتون البكر وتعليبه    مشروع قانون المالية: تمتيع شركة اللحوم بامتيازات جبائية عند التوريد لتعديل الأسعار    وزارة الصحة: تلقيح ''القريب '' يحميك من المرض بنسبة تصل الى 90%    وزير الصحة يبرز ضرورة تعزيز جاهزية المستشفيات العمومية لمواجهة الأمراض الفيروسية    المنستير: تعليق قائمات إسناد رخص التاكسي الفردي والجماعي والسياحي بداية من هذا اليوم    تكريم المطرب الراحل محمد الجموسي في أولى سهرات "طربيات النجمة الزهراء"    سوسة : وفاة امرأة صدمها القطار بمحطة سيدي بوعلي    أسعار جديدة للقهوة في تونس: ما الذي سيتغير بداية اليوم؟    الحماية المدنية : تسجيل 547 تدخلّ و533 مصاب    تفاصيل مباراة النجم الساحلي بالملعب التونسي    نادي الشمال القطري يضم المهاجم التونسي نعيم السليتي    القصرين: حجز 600 كلغ من البطاطا تعمّد أحد التجار بيعها بأسعار غير قانونية    وزارة الصحة توجه نداء هام لهؤلاء..#خبر_عاجل    منبر الجمعة .. الصدق روح الأعمال !    خطبة الجمعة.. الجليس الصالح والجليس السوء    يتزعمها الفحاش والبذيء وسيء الخلق...ما حكم الإسلام في ظاهرة السب على وسائل التواصل الإجتماعي ؟    متوفّر بداية من اليوم: هذه أسعار التلقيح ضدّ النزلة الموسمية    هل تراني أحرث في البحر؟… مصطفى عطية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عرق البرنوس اختراق لقيود الزمان والمكان
جرائم الإستعمار الفرنسي في عهد الجمهورية الثالثة: تقديم: عبد العزيز كمّون
نشر في الشعب يوم 02 - 05 - 2009

أصدر الأزهر الماجري أستاذ التاريخ بكلية الآداب والفنون والإنسانيات بمنوبة تونس كتابا بعنوان عرق البرنوس جرائم الاستعمار الفرنسي في عهد الجمهورية الثالثة وهو تعريب لمصنّف الكاتب «بول فينياي دوكتون».
نشر المعرب كتابه على نفقته الخاصّة عن المغاربية للطباعة والإشهار بتونس عام 2008. وهي الطبعة الأولى كما يستنتج من «المقدّمة العامّة للترجمة».
يقع الكتاب في 280 صفحة من الحجم المتوسط في طبعة أنيقة وخط مشرّق المضمون في مجمله تقرير مفصل عن وضع القهر والمعاناة والمظالم المسلّطة من الاستعمار الفرنسي على المجتمع التونسي فيما يزيد عن ربع قرن منذ انتصاب الحماية الفرنسية في 12 ماي 1881.
ترد مقدّمة الكاتب في شكل بيان مبدئي حول موقفه من الاستعمار بعنوان «ليعلم وزراء حكومة الجمهورية الثالثة أنّ المحققين في ميزانيات المستعمرات ليسوا كلهم خدما لها». وتأتي مباشرة بعد مقدّمة المعرّب بماهي دراسة شافية لتنزيل الكتاب في سياقه العام وتحليل أهم المسائل المتصلة به. فبعد أن بيّن قصّة تأليفه وعلاقته به وبعد أن عرّف بالكاتب تحدّث عن منهجيّته وعن محتوى الكتاب وبين ما سمّاه ب «محدوديّة التيّار المناهض للإستعمار» والمضايقات التي تعرّض لها المؤلف بسبب موقفه المناوئ للموقف الرسمي ثمّ أبرز مدى حيويته وأهميّته باعتباره موقفا انسانيا وصوتا حرّا مستقلاّ من خلال المقارنة بين الاستعمار الفرنسي بالأمس ونظيره الأمريكي راهنا ليؤكد الطبيعة الإجراميّة الموسوم بها كلّ أشكال الاستعمار بماهي ناموس في العلاقات الجائرة بين الأمم والشعوب.
وهو ما يبرز قيمة الكتاب ويبرّر أهميّته الفكرية والحضاريّة ومن ورائها سداد اختيار المعرّب في تقديم الكتاب للقرّاء العرب عموما والقرّاء المغاربة خصوصا والتونسيين بصفة أخصّ هذا علاوة على قيمته الوثائقيّة والتاريخية التي تعفينا نحن في تونس والمغرب العربي وافريقيا الفرانكفونية بفعل تاريخنا المشترك بل المتلازم وما يحكم علاقتنا بفرنسا منذ تاريخنا القريب اليوم وغدا.
ويختم المعرب مقدّمته بإبداء الرأي في الكتاب وهو موقف نقدي حصيف يُغرينا بالاطلاع على الكتاب مع ما مهّد له به من قبل وقد استهل هذه الفقرة «6 / مآخذنا على هذا العمل» بقوله: «استهوانا النص وشد انتباهنا (...) قرأناه ثمّ قمنا بنقله إلى لغة من ألّف من أجلهم. لكن مع ذلك تبقى لنا عليه بعض المآخذ والاحترازات، فكثير من المواقف والأفكار لا نشاطر فيها المؤلف الرأي مع احترامنا لتوجّهه وتفهّمنا لخلفيات مواقفه السياسية والايديولوجيّة..» (ص 18).
تطالعنا في آخر الكتاب الملاحق ومع أنّ المعرّب لم يحدّد إن كانت من وضعه أو من وضع المؤلّف فإنّه يبدو جلّيا من الملحق الثاني: «قائمة مختصرة في المراجع المعتمدة» انّها من وضع المعرّب أمّا الأول فهو يطلعنا على «بعض الصور الوثائقيّة» وفي مقدّمتها «بول فينياي دوكتون» و»محطة القطار بتوزر حوالي سنة 1920». ومن صور التونسيين «الشاب عمر بن عثمان الزعيم الروحي لإنتفاضة تالة الصرين سنة 1906» و»المساجين من الفراشيش الذين أُلقى عليهم القبض خلال انتفاضة سنة 1906». كما نجد 4 صور لأعلام فرنسيين ممّن ورد ذكرهم في الكتاب لعلّ أبرزهم المقيم العام ستيفان بيشون 1906 1909، ثمّ صور بايات تونس في بداية الاستعمار...
في الملحق الثالث والأخير نجد أربع كشافات: الأعلام المجموعات القبليّة الأماكن المصطلحات الدّالة.
1 شخصيّة المؤلف.. مفتاح الكتاب: من هو بول فينياي دوكتون؟
لقد ولد «بمونبيلياي هيرو» (Montpellier Hérautt) في 1859 وتوفّي عام 1943 «بأوكتون» بعد رحلة الدّراسة تخرّج طبيبا وعمل خارج فرنسا ثم عاد إليها في 1883 حيث ناقش بمونبيلياي أطروحة دكتوراه دولة. وتفتّقت مواهبه على أكثر من اهتمام فخاض عديد الأنشطة في العلم والإبداع الفكري والإعلامي علاوة على الممارسة السياسيّة التي دفعته إلى أن يمدّ هذا الجناح تارة مع النظام الرسمي وذاك الجناح تارة أخرى مع المعارضة أو على الأقل في فضاء الموقف الانساني الحرّ والمستقلّ.
جاء في التعريف به «هو طبيب وكاتب ورجل سياسة. رجل متعدّد الاختصاصات ومتنوّع الهواجس. رجل علم ومنطق، لكنّه طبيب شاعر. عقلاني يحترم المنطق العلمي ويستعمله كمنهج في مهنته وحياته ...» (ص 10).
أمّا تنامي الحس السياسي لديه فقد انطلق من مناهضته وتنديده بالمؤسسة العسكريّة التي كان شاهدا على جرائمها ثم اقباله على النشاط الأدبي والإعلامي وغلبه الهمّ السياسي على ما كان يُكتب حتى تجمع لديه رصيد هائل من المقالات السياسية المنشورة في عديد الصحف الفرنسيّة اليساريّة أو النقابيّة والمستقلة.
وإذا أردنا أن نرسم مساره السياسي قلنا: «هو جمهورية ينتمي لليسار الراديكالي» ثمّ طوّر انتمائه منذ سنة 1910 إلى «راديكالي اشتراكي» مع ميله اليساري.. الفوضوي ظلّ نائبا بالبرلمان الفرنسي فيما بين 1893 و1906 ويعدّ داخله «صوت التيار المناهض للإستعمار».
عندما نبحث في الصلة الحميمة بين الكاتب وكتابه لابدّ لنا أن ننتبه إلى «المسألة الاستعماريّة» التي تصدّرت «اهتماماته الفكرية والسياسية» حيث «نددّ بقوّة بجرائم الاستعمار الفرنسي عبر مداخلاته البرلمانية ومقالاته» كما يتجلّى ذلك بوضوح في «سلسلة المحاضرات التي قام بها بين سنوات 1911 و1913» من شمال فرنسا إلى جنوبها ولقد «طالب باستجواب كبار المسؤولين كالوزراء والضباط عن الجرائم المرتكبة في جزيرة مدغشقر والسينغال والتشاد واقترح بعث لجان تحقيق في التجاوزات الواقعة بالمستعمرات» (ص 11).
ومعلوم أنّ مثل هذه المبادرات كانت وراء إنشاء «محكمة الجنايات الدولية» في فترة لاحقة أي عند المنتصف الثاني من القرن نفسه. كما أنّ قادة الفكر والمثقفين هم الذين يتصدّون عادة لتلك التجاوزات ولا يتردّدون في وصفها بالجرائم النكراء ويحفزون الهمم على بعث مثل تلك المؤسسات. وبالمقابل فالساسة هم الذين يُحرّفون نشاطها عن مساره الموضوعي ويوظّفونها لخدمة المصالح الضيّقة والمواقف العدوانيّة.
2 الكاتب في نظر الآخرين
بعدما تتبعنا سيرة الرّجل، نشاطه ومواقفه نقول: إنّه «أنتج في الجملة حوالي أربعين مؤلفا في أغراض مختلفة» (ص 11) وهكذا تبدو حياته وانتاجه موضع انشغال في عيون الآخر. وقديما قال الشاعر «وتصغر في عين العظيم العظائم» فهو شخصية عظيمة بلا منازع وما يبدو جليلا مستعصيا على الآخرين هُو في نظره هيّنا يسيرا ليّنا خالف الموقف الرّسمي وتمرّد عليه وناصر المستضعفين في الأرض متحمّلا التّبعات النّاجمة عن مواقفه وما سبّبته من مضايقات لخصومه.
جاء في تصدير الكتاب تحت عنوان «رؤية فيها كثير من التبصّر»: «(...) فبعد عمليات التفقير الناجمة عن سياسات المصادرة والنسب والطرد والتقتيل نجح العرب والبربر في طرد المستعمرين من الشمال الإفريقي، وقام السود بالشيء نفسه في بقيّة القارة السمراء، والجنس الأصفر بالمجال الآسيوي» (ص 5).
وفي المحصلة هو شخصيّة فذّة استطاعت أن تخترق قيود الزمان والمكان بفضل مواقفه الانسانيّة لا بمجرّد الفكر والقلم فقط فتمكّنت من اكتساب أبعاد انسانية شاملة تتجاوز هويّته الفرنسيّة وعصره الجامع بين نصفين متلاحقين من قرني التاسع عشر والعشرين.
يقول «وبتجاوزي لإنتمائي الفرنسي، الذي لا يعني شيئا كبيرا مقارنة بإنتمائي إلى الإنسانية، التي يعني كل شيء بالنسبة لي، غمرني شعور عميق بالإبتهاج» (ص 5).
من هذا المنطلق سنحدّد ثلاثة مواقف من شخصيّته: الفرنسيون التونسيون المعرب.
أ الفرنسيّون: لقد خاطب وزراء حكومة الجمهورية الثالثة بعدما أنجز التقرير على اثر انتهاء مدّته النيابية بالبرلمان قائلا:
«أيّها السادة الوزراء (...) أنتم على يقين تام من استقلاليتي الفكريّة كإنسان حر وكمواطن فرنسي جدير بهذا الانتماء...» (ص 20). لكن وبالمقابل لم يمنع هذا من حصول ما يلي:
سبق لبول فينياي دكتون أن ندّد «بالمجازر الوحشيّة التي ارتكبها الجنرالات العسكريون في كل من جزيرة مدغشقر والتشاد» (ص 15) عندما كان ضمن البعثة الطبيّة بالمستعمرات ممّا أذكى نار العداء لدى المؤسسة العسكريّة.
تعرّض «للمساومات» والضغوطات حيث انتهجت السلطة معه سياسة تراوح بين «الإغراءات» و»الإكراهات»، وممّا يسجّل في هذا السياق أنّها منعته من نشر بعض مؤلفاته كما حاولت شراء ذمّته ثم سلطت عليه «الضغوطات عبر المحاكم والقضاء» واتهمته بالتعاون بل التواطئ مع «التيار الفوضوي».
ونتيجة لما سبق هو «خائن لبلاده من منظور مواطنيه أو لدى الغالبية الساحقة منهم» تماما مثلما نسمع عن نشطاء السلام اليوم في اسرائيل وفي كل حرب جائرة. «وهو عدّو داخلي» أو «عدوّ للدولة» في نظر السلط وخصوصا لدى القوّة المتنفّذة في مجال المال والإعلام والمستفيدين الرّئيسيين من المشروع الاستعماري» (ص 13).
ب التونسيون: يقول عنهم وهو ينجز المهمّة لفائدتهم وليس ضدّهم: «ولابدّ من التذكير في هذا الصدد بصعوبة العمل بالنسبة لمحقق فرنسي مثلي في بلد عربي مسلم يستنكف فيه الجميع بما في ذلك الصخور من كلمة الرّوم» (ص 25).
جاء في الهامش (29) أنّ عبارة «الرّومي» مشتقة من الرّومان وتعني الأوروبيين الذين قدموا إلى البلاد الإسلامية للإستحواذ على خيراتها» (ص 25). وممّا لاشك فيه أنّ الصراع العربي الاسلامي ضدّ الرّوم والحروب الصليبيّة قد غذّت تلك النّزعة العدائية قبل حلول المستعمر في العصر الحديث. بل انّ هذه النّزعة تواصلت حتى بعد الاستقلال وان اتخذت أشكالا مغايرة كالنزعة العنصريّة المناهضة للعمّال المغاربة بفرنسا خصوصا أو الزواج الذي يتمّ بينهم وبين الفرنسيات بما فيه من انبتات على حساب الأمهات والنساء المغاربيات ومازلنا نذكر الأغنية الجزائرية الشهيرة منذ سبعينيات القرن الماضي «ياربّي سيدي آش عملت أنا ووليدي.. فكّتُو بنت الرّومية...» للمطربة الجزائرية (نورة).
ومن ثمّ ليس مفاجئا أن يحمل لنا الباحث موقف التونسيين من «دوكتون» اذ يصنّف في نظرهم « «ضمن فئة الأجانب (رومي) من قبل المحليين الذين يتبنّى قضيتهم ويدافع عنهم» (ص 13).
ج موقف الباحث / المعرب الماجري
لقد اكتشف هذا الأخير قيمة الكاتب بعد ان اطّلع على الكتاب واقتفى سيرة صاحبه. لذا يجدر بنا التوقف عند نشأة العلاقة بين المترجم والنص يقول الماجري «قرأت الكتاب مرّة أولى ثمّ أعدت القراءة ثانية فثالثة.صار الكتاب لا يفارقني وعلى مرمى يديّ..» (ص 9) هذه العلاقة التفاعلية بين القارئ والكاتب بغضّ النظر عن المحتوى شأن لافت ومثير في سيكولوجيّة القراءة والتواصل الابداعي عبر النقد أو الترجمة أو اقتفاء خط الأثر مهما كانت طبيعة النص للبناء عليه أو التوليد منه أو إكماله أو معارضته بمفهوم المعارضة الشعرية إن كان النص شعرا أو الفكريّة ان بدا موقفا فكريّا أو علميّا.
من هذا المنطلق بات واضحا انّ الماجري يقف موقف المُجِلّ لإنسان تعاطف مع محنة وطننا في ظرف لم تتبلور فيه بعد معالم النضال التحرّري وقبل أن تنشأ الحركة الوطنية.
وعندما نتناول التقرير بالتفصيل سنقف عند وضاعة الواقع المرير الذي عاشته بلادنا في تلك الفترة. لكن لنتوقف الآن عند ماهية موقف الباحث من مؤلف الكتاب.
يقول في عبارة توجز شخصية دوكتون وكأنّها نار قدحت من صخرات النص أو من صرخاته فبعد أن يلوّح بصورتها عبر هذه الومضة «حيث يقول « في النص وجهة نظر أو أطروحة لشخص ملتزم تحركه منازع انسانيّة واضحة» (ص 13) يمضي في تحليل أبعاد هذه الشخصيّة التي صنعتها عوامل عدّة وصاغت وجدانها مؤثرات مباشرة وغير مباشرة. فهو ملتزم قبل بروز فلسفة الإلتزام عند أواسط القرن الماضي «دون التخلص تماما من ضغوطات الحضارة التي نشأ عليها» إنّه التزام انساني يبعد صاحبه عن النزعات القومية أو العرفية أو الإقليمية الضيّقة لأنّه يجد جذوره في رافدين مهمّين من روافد النهضة الأوروبية هما «الحركة الأنانية» (القرن السادس عشر) وحركة التنوير (القرن الثامن عشر).
ويضيف «... يمكن القول إنّ للرّجل أكثر من انتماء» ويعني كونه من «رجال الحدود» أي الذين يقضون بأقدامهم على التراب الفرنسي بفعل هويّتهم الوطنية لكن عيونهم على ما وراء حدود فرنسا حيث مستعمراتها وما يعنينا هنا «المغرب العربي الكبير» وليست المستعمرات في افريقيا السوداء أو الهند الصينية أو غيرها من بلاد ماوراء البحار.
وقد أشار إلى مرجع مهمّ في هذا السياق:
Henri (J.R.) les frontaliers de l'espace franco-Maghrébiens; in etre marginal au Maghréb, Alif, 1993.
كل هذا يدفع الشخصيّة على البذل من أجل التوليف بين المفارقة الصارخة: كونها «شخصيّة مستقلّة تخضع لفكر حر ولرؤية خاصة للشأن السياسي» من جهة واضطلاعها من جهة أخرى بمهمّة رسميّة تندرج «ضمن منظومة ادارية وسياسية لها قوانينها وأنظمتها وهياكلها» وهي «وظيفة التحقيق الرسمية التي كلّف بإنجازها على امتداد ثلاث سنوات (1907 1909) بالمستعمرات الفرنسيّة بشمال افريقيا» (ص 13).
هذا لم يمنع الباحث من نقد الكاتب كما أنّ إعجابه بالكتاب لم يحل دون نقده الموضوعي. وفي هذا السياق لابد من التنمية إلى أمرين أوّلا: يتمحور هذا النقد حول موقفه من حركة الشباب التونسي ومن دفاعه عن صغار المعمّرين وتشبيه وضعيتهم بوضعيّة المزارعين التونسيين وهو ما لايمكن الخوض فيه الآن قبل النظر في محتوى التقرير. ثانيا: تحليل الظروف والملابسات التي أثرت على مواقف دكتون ما يتصل بالوضع السياسي العام من ناحية وما تعرّض له الرجل من مضايقات من ناحية أخرى بما يضع الشخصيّة في حدودها الواقعيّة. فمع أنّها شخصيّة قويّة وفاعلة فهي تتحلّى أيضا بالحنكة الديبلوماسية والسلوك العقلاني ولم يردْ لها أحد أن تكون شخصيّة أسطوريّة.
المهمّ أنّنا نجلّ
هذه الشخصية وأمثالها ونثمّن جهود الماجري في التعريف بها وتقريبها من القارئ في تونس والوطن العربي عموما.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.