يحتفل عمال العالم بعيدهم في الاول من ماي من كل عام ليجددوا العهد لمن سبقوهم بالحفاظ على حقوقهم النقابية والاجتماعية التي كرسها الرواد الاوائل عبر مسيرتهم النضالية والتي حققوا من خلالها انجازات لم تكن في البداية في مستوى طموحاتهم لغياب الوعي الاجتماعي والطبقي وانحسار العمل النقابي ومحاربته من قبل الرأسمالية والبرجوازية، وعندما برزت الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر في أوروبا وأمريكا تصاعد نشوء البناء النقابي وتنامى الوعي الطبقي، فأسس حينها عمال امريكا اتحادهم عام 1881 الذي أثمر مؤتمره الذي عقد عام 1885 اجراء مفاوضات جماعية لتخفيض ساعات العمل من 16 ساعة الى 8 ساعات، الذي رفضه اصحاب العمل، الامر الذي أدى الى اعلان النقابات العمالية الاضراب في سائر مواقع العمل، حيث نتج عن ذلك مواجهات دامية عام 1886 ما بين الشرطة والخيالة والعمال في مدينة شيكاغو، وتبع ذلك اقدام الشركات والمصانع الى تسريح العمال الذين شاركوا في الاضراب، مما ادى الى تصعيد المظاهرات والصدامات يومي 3 و 4 ماي واقدام العمال الى غلق مصانع النسيج وشركة ماركورسيك للآلات الزراعية، ومخاطبة القادة النقابيين التجمعات العمالية المضربة بالصمود وتصعيد النضال من اجل حقوقهم الاجتماعية والنقابية واجبار اصحاب العمل على التسليم بمطالبهم ووضع حد لاستغلال جهدهم وعرقهم، واثناء تجمع للعمال في ميدان هاي ماركث ألقى احد المدسوسين والمأجورين من قبل اصحاب العمل قنبلة على العمال مما ادى الى سقوط اربعة عمال ومئتي جريح، الامر الذي دفع الحرس الوطني الى تفريق المظاهرات واعتقال عدد من القيادات النقابية وتقديمهم للمحاكمة التي حكمت على سبعة منهم بالاعدام شنقا وعلى اخرين بالسجن ما بين سنة و 15 سنة، وعلى اثرها انطلقت مظاهرات عمالية في معظم انحاء العالم تندد بهذه الاحكام وتساند المطالب العمالية وتدين الاجراءات الامريكية التعسفية. وقد اعترف احد شرطة مدينة شيكاغو وهو على فراش الموت انه هو الذي القى القنبلة بتآمر من اصحاب العمل، وقد ترك هذا الاعتراف اثره الكبير في مدينة شيكاغو، مما دفع محافظ المدينة الى اصدار قرار بالغاء قرارات المحاكمة واطلاق سراح المعتقلين بعد ان كان قد نفذ حكم الاعدام بأربعة منهم وانتحار أخر في زنزانته، وقد برأ المحافظ الذين اعدموا، ووجه نقدا لاذعا للقضاة وشهود زور وبعد خمسة اعوام اقيم احتفال شعبي ورسمي رفع من خلاله الستار عن نصب تذكاري لضحايا العمال الذين سقطوا من اجل حقوق العمال، وقرر اتحاد عمال امريكا ان يكون الاول من ماي من كل عام عيد العمال، كما اقر عمال فرنسا في نفس العام القرار نفسه وفي عام 1889 انعقد المؤتمر الثاني للاحزاب الاشتراكية الديمقراطية والنقابات في باريس واتخذوا قرارا بأن يكون الاول من ماي من كل عام عيدا للطبقة العمالية العالمية، وهكذا عمد هذا العيد بدماء وعرق العمال وتضحياتهم وكرس بقرار نقابي وليس بقرار جمهوري او ملكي. وفي هذا اليوم الذي يحتفل العمال فيه بعيدهم مازالت البطالة تتفشى بين صفوفهم بشكل مريب وبالاخص في المنطقة العربية حيث بلغ عدد العاطلين عن العمل نحو 30 مليون عامل كما يواجه العمال مخاطر العولمة واقتصاد السوق وشروط العمل المجحفة رغم معايير العمل الدولية والعربية، ويفتقدون الى حماية حقوقهم النقابية والاجتماعية، وما زال اكثر من مليار جائع تمركز معظهم في دول العالم الثالث وجلهم من العمال يطالبون بانتشالهم من شظف العيش، رغم ان الدول النامية تحاول القضاء على آفة الفقر والجوع، لكن كما يبدو ان معركتها ستكون خاسرة في مواجهة هذه الآفة لعدم قدرتها على مواجهة خطر رياح العولمة التي حولت اسواق كثير من هذه البلدان الى اسواق استهلاكية، وقضت على مشاريعها الانتاجية الوطنية لعدم قدرتها على المنافسة، وأدت الى افلاس الصناعات الصغيرة والمتوسطة التي لا تستطيع الوقوف في وجه منافسة الاحتكارات الاجنبية الضخمة والتكتلات الاقتصادية العملاقة الامر الذي اضطر هذه المصانع الى اغلاقها وتسريح عمالها. ان التحولات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي يشهدها العالم اليوم من شأنه ان يمس بالحقوق والحريات النقابية، ويقلص من مكتسبات العمال وحقوقهم وانجازاتهم وان انفراد امريكا كونها تمثل المحرك الرئيسي الفعال في ديناميكية العولمة الشاملة قد ينعكس على دول العالم الثالث ويطال بشكل اساسي العمال، وان سياسة امريكا القائمة على استقطاب المهارات والكفاءات من الدول النامية وسلب الادمغة العمالية المبدعة او قتلهم في مناطق شتى سيؤدي الى ان تخسرهم بلدانهم كونهم يشكلون رأس مال بشري مهم في عملية الانتاج والابداع والاختراع الوطني، كما سيؤثر هذا بشكل فعال في اقتصاد الدول النامية ويحد من تقدمها وتبقى الايدي العاملة رخيصة ومشلولة ويحولها عبيدا لخدمة اقتصاد الدول العظمى، لقد دأبت امريكا وما زالت الى احداث بؤر توتر ونزاعات مذهبية واقليمية وعرقية في بلدان العالم الثالث والسيطرة على ثروات الشعوب بأساليب مختلفة لتبقي اقتصاد تلك البدان مدمرا ومديونيتها قاتمة وثرواتها مرهونة وعمالها خدما لاقتصادها، ان ما يواجهه العمال من مخاطر العولمة والهيكلة والخصخصة التي تبدي في ظاهرها الرحمة وتخفي في طياتها سوء العذاب تهدف الى انتهاك حقوق العمال وتهميش دورهم النقابي، وانهاء ما انجزه الرواد الاوائل، وان النظام العالمي الجديد أحادي القطب الواحد الذي ينتهك حرية وسيادة الشعوب والسيطرة على منابع الطاقة باسم الديمقراطية والاصلاح والحرية وحقوق الانسان، يتغاضى عن جرائم الاحتلال في فلسطين والعراق ويصمت عن انتهاك القوانين والشرائع الدولية وتفاقم الظلم الاجتماعي والتميز العنصري وانتشار الفساد والجريمة والفوضى في الدول التي تسير في ركابه. وفي اطار هذا المشهد العالمي المتفجر الذي اشرنا اليه وفي تمركز الثروة في يد فئة قليلة وترك معظم الشعوب ترزح تحت خط الفقر والعوز والمجاعة والبطالة، ليس هنالك من عاقل الا ان يشعر بأن العالم مقبل على زلزال وبركان لا يبقي ولا يذر، وهذا من شأنه ان يفرض على العمال التهيؤ لمواجهة مرحلة تاريخية مفصلية في مسيرتهم النضالية واعادة النظر في تقييم وبناء عمل نقابي محصن على نطاق قطري واقليمي وعالمي وايجاد اطار تنسيقي عمالي لمواجهة هذه المخاطر وتسليح العمال بالخبرة واكتساب المهارات التقنية لمواجهة الثورة المعلوماتية، ووضع ضوابط امام ما تنقله وسائل الاعلام من امراض ومفاسد اجتماعية. ان ما يشهده العالم اليوم من اختلال في موازين القوى وتوتر في العلاقات ما بين قطر واخر، وما تقوم به امريكا وحلفاؤها من إشعال حرائق وتفجيرات في كثير من المناطق قد ينعكس على الطبقة العاملة، وبالاخص عمال المنطقة العربية، حيث دمرت قوات الاحتلال المصانع والمؤسسات والبنية التحتية العراقية، وانتقل العمال من مواقع العمل الى خنادق الكفاح لانهاء الاحتلال، وتحول معظم العمال ما بين قتيل وجريح ومشرد في وطنه وخارجه وعاطل عن العمل، وارتوت الارض بدماء الذين يسقطون بالمئات يوميا بدلا من عرقهم، وفي فلسطين دمر العدو الصيهوني ورش العمل وآلة الانتاج وعطل هدير المصانع ليرتفع هدير الطائرات لتقصف البشر والحجر، واوقف المحراث عن رزاعة الحقول لتحرثها قنابل دبابات وجرافات الاحتلال ومنع زراعة الاشجار في مختلف انواعها ليقتلع ما تبقى منها وخاصة المعمرة، وعطل منجل الحصاد في موسم الحصاد ليحصد أرواح النساء والاطفال والكهول بصواريخه وقذائفه، وهدم البيوت ودمر الجسور والطرقات التي تربط المدن بالقرى والمخيمات، وأقام الحواجز وجدران الفصل العنصري، ومنع العمال من الوصول الى اعمالهم وحقولهم ومزارعهم ومن ثم اعتقالهم، واغلق المدارس والجامعات أياما طويلة، ووسع المعتقلات وزج بالالوف من المواطنين المناضلين ضمن اسوارها، ووسع المستوطنات بدلا من ازالتها، وتمادى القصف الهمجي اليومي لقطاع غزة واجتاح مناطق الضفة الغربية لملاحقة المناضلين ونشطاء الانتفاضة والقيادات الميدانية لاغتيالهم، وذلك بدعم وغطاء امريكي دون ان يعوقه اي وازع اخلاقي او قرار رسمي. يجيء عيد العمال هذه الايام وحقوقهم في كثير من البلدان مهدورة ومنهكة وانجازاتهم التي ضحوا من اجلها في طريقها الى الضياع، ونقاباتهم التي أشادوها يعرقهم مهددة بالتراجع والانحسار، ومكتسباتهم التي انتزعوها بالمفاوضات الجماعية في مهب الريح، وستبقى قياداتهم مهمشة ان بقيت موزعة الولاء ومنتظرة على ابواب سراب وعود النظام العالمي الجديد الذي يسوق محاسن العولمة ويروج لفوائدها، حيث اصبح هذا النظام يتحكم بثروات الشعوب ويتخذ قرارات الشرعية الدولية من اجل مصالحه واهدافه لا من اجل مصالح الشعوب والعمال. ان العمال العرب وهم يحتفلون بهذا العيد قرروا ان يكون هذا العام عام الحقوق والحريات النقابية، مجددين العهد ان يكونوا أوفياء للرواد الاوائل الذين عبّدوا طريق العمل النقابي وحققوا الانجازات الاجتماعية لمصلحة العمال من خلال تضحياتهم ونضالاتهم.