ليست الأزمة الفلسطينية وليدة اللحظة السياسية الراهنة، ولا هي نتاج التداعيات الناجمة عن الانتخابات التشريعية، أيضا، فمنذ بداية الانتفاضة (أواخر العام 2000)، شهدت الساحة الفلسطينية نزاعات واستقطابات وتنافسات حادة، بين مشروعين سياسيين أساسيين. الأول، ويتركّز في هدف دحر الاحتلال، من الأراضي المحتلة عام 1967، وإقامة دولة فلسطينية في الضفة والقطاع، بحسب البرنامج المرحلي ووثيقة الاستقلال (1988)، ومركزه السلطة وحزبها (حركة فتح)، ومعها بشكل أو بآخر الفصائل المنضوية في إطار منظمة التحرير. والمشروع الثاني، يتركّز على مقاومة المشروع الصهيوني برمّته، ومناهضة عملية التسوية، وتحرير فلسطين، ومركزه حركة حماس، ومعها باقي الفصائل المعارضة؛ في عودة إلى المربع الأول الذي كانت انطلقت منه الفصائل الفلسطينية (في منتصف ستينيات القرن الماضي). وعلى رغم سخونة وحدّية هذه الاستقطابات والتنافسات السياسية والتنظيمية الحاصلة، خلال المرحلة الماضية، فإن هذه الساحة استطاعت تجاوز حال التنازع والشقاق والاحتراب، بفضل عوامل عدة أهمها: 1) التركيز على التناقض الرئيسي المتمثل بالعدو الإسرائيلي، وهو ما تجلّى في توجيه الجهود لمقاومة الاحتلال، وتعزيز الصمود في مواجهة املاءاته وسياساته وإجراءاته القمعية والتدميرية. 2) وجود زعامة شعبية جامعة بمكانة الرئيس الراحل ياسر عرفات، الذي رفض نزعة الشقاق والاحتراب الداخلي، وعيا منه بمكانته الرمزية والتاريخية، وإدراكا منه لمخاطر هذا الأمر على القضية الوطنية. 3) نزوع حماس، في ظل زعيمها الشيخ (الشهيد) أحمد ياسين، نحو إيثار الإجماع الوطني الداخلي في الساحة الفلسطينية، وتجنيبها الصراعات الجانبية، خصوصا تلك الصراعات المتعلقة بالسلطة. الآن تبدو الساحة الفلسطينية في مهب أزمة سياسية خطيرة وكبيرة، ليس فقط بسبب افتقادها للعوامل المذكورة، فقط، وإنما بسبب تولّد عوامل تنازع جديدة، أيضا، يمكن تمثّل أهمها في العوامل التالية: 1 حال التفسّخ والضعف والترهّل في حركة فتح، فهذه الحركة مازالت تعيش إرهاصات مرحلة ما بعد عرفات، وما يفاقم من ذلك، افتقادها للحراك السياسي والتنظيمي الداخلي، وضعف الأطر والمؤسسات القيادية، وتعدد مراكز القوى والنفوذ والاجتهاد فيها. والمشكلة أن لواء القيادة أو المرجعية السياسية مازال مفتقدا، بين "أبوات" هذه الحركة، أو ما تبقى من قيادتها التاريخية. أما بالنسبة لأبي مازن، فقيادة فتح لم تنعقد له، كما هو معروف، برغم مكانته التاريخية في هذه الحركة، وبرغم كل الجهود التي يبذلها لترشيد وضبط ومأسسة هذه الحركة، وذلك يعود لجملة من الأسباب التاريخية والسياسية والشخصية، وضمنها طريقة إدارة الرئيس الراحل لهذه الحركة. وبديهي أن الفوضى والاضطراب وعدم الانتظام والافتقاد للمرجعية في فتح ينعكس سلبا على عموم الساحة الفلسطينية أيضا. 2 ظهور حركة حماس كمنافس قويّ لحركة فتح على مكانة القيادة في الساحة الفلسطينية، خصوصا بعد الانتخابات التشريعية الحاصلة. ومشكلة "فتح" أن "حماس" لم تعد تعمل فقط كمعارضة، من خارج النظام الفلسطيني، وإنما هي باتت تعتبر نفسها بمثابة بديل جدّي لحركة فتح في مكانة القيادة، أيضا؛ خصوصا بعد أن استطاعت الوصول إلى سدّة السلطة، وشكّت الحكومة، وباتت جزءا من النظام الفلسطيني السائد، باستثناء منظمة التحرير. والحاصل فإن الانتخابات التشريعية أنجبت حالا من التعادل في النفوذ الشعبي وفي القوى بين فتح وحماس، ما استتبع انبثاق واقع من الازدواجية، وربما المزاجية والفوضى والتضارب، في ممارسة السلطة والسياسة، في الساحة الفلسطينية، خصوصا في ظل ضعف الفصائل الأخرى. 3 ميل حماس للتسرّع في فرض برنامجها، بدعوى فوزها في الانتخابات. وفي الحقيقة فإن هذا الفوز لا يمنح الشرعية لحماس في فرض البرنامج الذي تريد، فثمة تراث سياسي للحركة الفلسطينية، يمكن البناء عليه وتعزيزه، ولكن لا يمكن تجاهله أو الاستهتار به، فضلا عن التشكيك فيه. كذلك فإن فوز حماس لا يمنحها الشرعية والأهلية لشطب دور حركة فتح القيادي والوطني، ولا غيرها من الفصائل، التي انطلقت قبل حماس بما يزيد عن عقدين من الزمن، خصوصا أن فتح، على رغم كل سلبياتها، ساهمت بتحقيق المنجزات الوطنية، وضمنها وصول "حماس" ذاتها إلى سدة السلطة (على الأقل). كما أن "فتح" كانت شريكة لحماس في عمليات المقاومة المسلحة ضد الاحتلال، طوال السنوات الماضية، على رغم جنوحها للتسوية والمفاوضات. وفوق كل ذلك فإن "حماس" التي شكّلت الحكومة لا تستطيع تجاهل حقيقة انبثاق هذه الحكومة من اتفاق أوسلو المجحف(1993)، وأن هذه الحكومة ملتزمة بشبكة من العلاقات والاتفاقات مع إسرائيل، وأنها مسؤولة عن عيش مواطنيها، وعن صمودهم بأرضهم. ولاشك أن كل ذلك يتطلب من الحكومة التمييز بين انتمائها لحركة سياسية بعينها، وبين مسؤولياتها الوطنية واليومية، التي لا تتطلب البتة العيش على الشعارات أو الرغبات الذاتية وفقط. 4 المعضلة الآن، في الساحة الفلسطينية، أن الأزمة السياسية الحاصلة تتفاقم في ظل انسداد الخيارات أمام الفلسطينيين. فلم تعد الانتفاضة، مثلا، على جدول الأعمال، بعد أكثر من خمس أعوام من مواجهة عمليات الاستنزاف الإسرائيلي، المتمثل بعمليات التدمير والتقتيل والحصار والعزل وبناء جدار الفصل والحواجز وقطع المساعدات. أيضا، فإن خيار المقاومة المسلحة في الضفة والقطاع، أو وفق نمط العمليات التفجيرية في المدن الإسرائيلية، بات جد صعبا، إلى درجة أن حماس، ذاتها، عزفت عنه، لسبب أو لأخر، ونحت نحو التهدئة. أما بالنسبة للخيار التفاوضي فهو مغلق بسبب إصرار إسرائيل، ومعها الدول الكبرى، على دفع الحكومة الفلسطينية التي شكلتها حماس لتقديم تنازلات، تتمثل بالاعتراف بإسرائيل وبقرارات الشرعية الدولية، وبالالتزامات التي وقعت عليها السلطة، ونبذ العنف. وأمام انسداد الخيارات هذه كلها يبقى ثمة خشية من انشغال الفلسطينيين بتوتير الأوضاع داخلهم، وتفريغ شحنة الغضب والإحباط والعنف فيما بينهم، كبديل عن التصارع ضد العدو وضد املاءاته السياسية. 5 من الناحية السياسية من المؤسف جدا أن هذه الأزمة تأتي في وقت ينبغي فيه على الفلسطينيين التوحد لمواجهة الخطط الإسرائيلية المتمثلة بالحل الأحادي أو غيره من الحلول الجزئية أو التصفوية، والمنبثقة من محاولات إسرائيل الادعاء بعدم وجود شريك للتسوية في الطرف الفلسطيني، أو عدم أهلية هذا الطرف لإدارة أحوال الساحة الفلسطينية. على ذلك يخشى، في حال عدم التوجه نحو إيجاد حل جدّي للأزمة الفلسطينية الراهنة، أو على الأقل عدم السيطرة عليها أو تجاوزها، أن تطيح هذه الأزمة بالمكتسبات الكيانية للفلسطينيين، وأن تضعف من وحدتهم، وأن تحد من قدرتهم على الصمود، وربما تصل إلى حد تقويض أو تبديد حركتهم الوطنية المعاصرة. معنى ذلك أن الفلسطينيين معنيون بتدارك مخاطر هذه الأزمة، باعتماد الروح الوطنية الشاملة والعقلانية السياسية، وهذا يتطلب، أولا، نبذ التوجه نحو تجييش العواطف والعناصر؛ وثانيا، نبذ استعراض القوى والانجرار للاقتتال الجانبي؛ وثالثا، اعتماد وسائل الحوار والنقد والتفاعل البناء، لإيجاد توافقات وطنية؛ ورابعا وأخيرا، إن لم تفلح هذه الوسائل، لامناص أمام الفلسطينيين من حسم الأمر عبر الوسائل الديمقراطية الشعبية، وضمنها الاستفتاء والانتخابات (الرئاسية والتشريعية) المبكرة.