رغم مرور حوالي ستة عقود على قيامها، ورغم قوتها الظاهرة، مازالت التساؤلات تحيط إسرائيل بشأن مغزى قيامها، و قدرتها على الاستمرار، وامكان بقائها على شكل دولة يهودية الطابع، منعزلة عن محيطها، ومعادية له. ولا تنبثق شرعية هذه التساؤلات، التي تطرح حتى في إسرائيل، فقط من تفاعلات الصراع العربي الإسرائيلي، أو من ما يعرف ب «القنبلة الديمغرافية»، أو من وجود إسرائيل في محيط أكثري عربي، على أهمية كل ذلك، وإنما أيضا من حال النشاز الذي تشكله إسرائيل بواقعها، السياسي والأيدلوجي والديني المغلق، في عالم يحثّ الخطى نحو الدمقرطة واللبرلة وما بعد الحداثة، واستعادة الهويات، وتعدد السرديات، والانتقال إلى الدولة ما بعد الوطنية أو ما فوق القومية، بدفع من مسارات العولمة: السياسية والاقتصادية والتكنولوجية والإعلامية. المفارقة أن التساؤلات حول مصير إسرائيل و»فرادتها» ومستقبلها تنامت مع انطلاق عملية التسوية (مطلع التسعينيات) ومع ظهور مجال لإدماج إسرائيل في المنطقة، على خلفية تولد شعور لديها بالاستقرار والأمن والغلبة، إثر تراجع التهديد الخارجي، وهيمنة الولاياتالمتحدة على النظامين الدولي والإقليمي. ولأسباب داخلية ووظيفية، تتعلق بطبيعتها ورؤيتها لذاتها ودورها في المنطقة، فإن إسرائيل مانعت عملية التسوية هذه، وحدّت من تأثيراتها عليها. وهذا ينطبق على عملية التسوية الإقليمية، أو عملية تشكل نظام إقليمي وفق مشروع «النظام الشرق أوسط الجديد». ذلك أن إسرائيل، بين عوامل أخرى، قوضت هذا المسار، برفضها التجاوب مع استحقاقات التسوية الثنائية، المتعلقة بالانسحاب من الأراضي العربية المحتلة، وبطرحها شروطا استعلائية للاندماج الإقليمي (أو قل للهيمنة)، باعتبارها ذاتها جزءا من الغرب، وبرفضها الاندماج كدولة عادية في نسيج المنطقة، على أساس من التكافؤ والندية والتبادلية (الأرض مقابل السلام). لكن التساؤلات بشأن وضع إسرائيل ومآلاتها، تنامت أكثر بدفع من مسارات العولمة، ذلك أن إسرائيل التي تنتمي للغرب الرأسمالي المتعولم، لم تستطع تلافي رياح العولمة التي اجتاحت العالم، وبالأخص العالم الغربي، في هذا العصر، كما لم تستطع التخفيف من آثارها، الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية. بالمحصلة فقد تنامت وتعقدت التناقضات والنزاعات الإسرائيلية، بين المتدينين والعلمانيين، والاشتراكيين والليبراليين (دعاة الاقتصاد الحر)، والشرقيين والغربيين، والمهاجرين الجدد والقدامى، والفقراء والأغنياء، والمعتدلين والمتطرفين (بشأن التسوية)، بدفع من عملية التسوية وتداعيات مسارات العولمة. وثمة تحليلات إسرائيلية تشير إلى أن إسرائيل تسير رويدا رويدا نحو الانشقاق، إلى درجة أن البعض بات يحذّر من هذه الانشقاقات بمصطلحات الحرب الأهلية وربما أن مشكلة إسرائيل تكمن في أن التناقضات والانشقاقات، التي تعيشها خطيرة ومؤثّرة كونها تمسّ رؤيتها لذاتها وهويتها وحدودها الجغرافية والبشرية ودورها الوظيفي في المنطقة، وعلاقتها بالولاياتالمتحدة، وبالعالم الغربي. من ناحية أخرى تبدو هذه الانشقاقات والتناقضات بمثابة تعبير طبيعي عن ردّة فعل المجتمع القديم على الجديد. وردّة فعل غريزية وعفوية على العولمة وما بعد الحداثة، للبقاء في الأسطورة، ورفض الدخول إلى التاريخ الواقعي في محاولة للحفاظ على إسرائيل كدولة استثنائية، ووقف مسارات تحولها لدولة عادية. هكذا باتت إسرائيل تعيش هاجس التحول من دولة استثنائية، إلى دولة عادية، ومن دولة نشأت رغم التاريخ إلى دولة في التاريخ، في ظل التأثر بمسارات العولمة وتابعتها الخصخصة، كغيرها من الدول، وبنتيجة وصولها إلى درجة مناسبة من الاستقرار السياسي والأمني والتفوق الاقتصادي والتكنولوجي. ولا شك أن من ملامح ذلك تآكل مؤسسات الدولة المركزية، فلم يعد الجيش قدس الأقداس، ولا بصورة الجيش الذي لا يقهر، ولم تعد الدولة منزهة، فثمة فساد وامتيازات، وهذا ينسحب أيضا على الأحزاب والحياة السياسية. أما الهستدروت (اتحاد العمال) والكيبوتزات (التعاونيات الاستيطانية الزراعية) فقد تراجع دورهما كثيرا في الحياة الاقتصادية والاجتماعية للإسرائيليين. وبصورة عامة فقد تراجع دور الدولة بوصفها المشغل الأكبر لليد العاملة، نتيجة النمو الهائل للقطاع الخاص، بل إن الدولة باتت تراجع وظائفها، وتقلص تقديماتها الاجتماعية للشرائح الفقيرة، مايزيد من الفجوات الاجتماعية في إسرائيل، على خلاف صورتها التي تأسست عليها كدولة اشتراكية أو كدولة ضامنة (للتعليم والصحة والعمل والإسكان والخدمات) لمهاجريها اليهود. وبسبب انفتاح إسرائيل أمام العولمة، بحسب سيفر بلوتسكر، فقد «عاش نحو ربع الإسرائيليين في العام الماضي تحت خط الفقر». يقول بلوتسكر:»انتقلت إسرائيل في مسار سياسي واجتماعي معقد، متقطع ومصحوب بالأزمات، من اشتراكية ناجحة إلى رأسمالية ناجحة لكنها أقل إنسانية.. وفي غضون ذلك دُفعت أثمان عن الإخفاقات، والاهمالات، والفساد..بالتدريج نفذت الحكومات كلها، بغير فرق في الصبغة العقائدية، إصلاحات بنيوية زادت التنافس، وحلّت الاحتكارات والشركات الاحتكارية..وتحولت إسرائيل من مجتمع يُحتذى إلى مجتمع أسهم بضمان متبادل محدود (ديعوت) وبرأي المؤرخ 23 أفريل 2007 والكاتب جادي طاوب، فقد تطورت إسرائيل تطوراً صناعياً واقتصادياً رأسمالياً سريعاً.. مما جعل الشعب لا يحس أنه في سفينة واحدة، بل انتصرت الفردية الرأسمالية والأنانية 23 أفريل 2007 (يديعوت ) أما يغئال سيرنا فيرى الأمر على النحو التالي «العولمة حولتنا إلى دولة غنية ..التكنولوجيا العليا هي مصدرنا الأساس ..ولكن على طريقة العولمة فان للغنى ثمنا باهظا : فهو يلغي المبنى القديم للسياسة، ينقل القوة إلى المال وحده، يضعضع كل أنواع المساواة، يوزع رأس المال بشكل مختلف. تحولنا إلى إمارة تكنولوجيا عليا على شاطئ البحر المتوسط، تعمل تقريبا كإمارة نفط: مُنتج أساس وحيد، أغنياء وفقراء. الخصخصة المنفلتة العقال لأغراض العولمة دفعت إلى الانهيار بالمبنى الحساس للرفاه الاجتماعي القديم والتضامن الاجتماعي، اللذين قامت على أساسهما الخدمة العسكرية للجميع، ولكنها لم تنجح في حل النزاع القبلي مع الفلسطينيين ومع المسلمين في المحيط. هذا التداخل، للخصخصة ولثراء الأقلية إلى جانب نزاع غير محلول، في دولة ذات قشرة ديمقراطية شابة، رقيقة وهشة، يجعلنا ميدان تجارب للعالم بعد العولمة. تجربة مخيفة.» (يديعوت أحرونوت (10/04/07). طبعا بالمقابل ثمة مكاسب لإسرائيل من الاندماج في العولمة، فهي جزء من العالم الرأسمالي الغربي، وهي تعتمد على التكنولوجيا العالية والالكترونيات، فقد وصل الناتج القومي الإسرائيلي إلى 150 مليار دولار، ومستوى الدخل للفرد ارتفع إلى 21 ألف دولار سنويا (عام2006 )، وباتت إسرائيل من الدول المصدرة للتكنولوجيا العالية؛ وهي صدرت بضائع بحوالي 150 مليار دولار خلال 12 عاما الماضية، واستقبلت استثمارات بعشرات المليارات من الدولارات، بنتيجة الانخراط في مسارات العولمة. حتى الآن أجّلت إسرائيل، وبالأحرى تهرّبت، من الأسئلة المصيرية المطروحة عليها، منذ قيامها، ولاسيما الأسئلة المتعلقة بتناقضاتها الداخلية التي نشأت معها منذ قيامها، بين كونها دولة دينية أم دولة علمانية، وبين كونها دولة يهودية أم دولة ديمقراطية، وبين كونها دولة غيبية أم دولة حداثية. تماما مثلما تهربت من الأسئلة المتعلقة بعملية التسوية الثنائية والإقليمية، وتداعيات الاندماج الإقليمي عليها، بشأن تحولها إلى دولة عادية، أي دولة ديمقراطية علمانية لمواطنيها، أو إلى دولة كونفدرالية، أو إلى دولة ثنائية القومية، على ما يطرح عزمي بشارة. ولكن مع ذلك هل تستطيع إسرائيل أن تبقى معاندة للتاريخ وللجغرافيا والتطور الطبيعي؟ وهل تستطيع أن تكون استثناءا من سنن التطور السياسي والاجتماعي والاقتصادي، لاسيما في ظل التطورات والمتغيرات الدولية المتسارعة والعاصفة الآتية مع رياح العولمة؟!