أعلن الاتحاد العام التونسي للشغل منذ مؤتمره الأخير بطبرقة عن استعداده لخوض جولة جديدة من المفاوضات الاجتماعية ودعا الأطراف الاجتماعية إلى الاستعداد هي الأخرى للغرض نفسه ومن بين هذه الأطراف الحكومة التي كانت آنذاك تحت عسر الولادة. وساق الاتحاد من الحجج والمبرّرات ما يكفي لإقناع أعتى الليبيراليين وأشدهم مراسا في استنباط الأحابيل الاقتصادية لتحقيق الربح على حساب الشغالين وتحميلهم دوما تبعات أزمات النظام الراسمالي. سوف لا نتحدّث هنا عن الحجج السياسية والأخلاقية التي تستوجبها استحقاقات ثورة الحرية والكرامة بما يعني ضرورة أن يتمتع الشغّالون بتوزيع عادل لثروة بنوها جيلا بعد جيل ولم ينلهم منها غير أجور زهيدة ومستوى معيشي متدنّ في حين كدّست قلّة من الثروات ما يعجز العقل عن تمثّل حجمها ولم يسكبوا قطرة عرق لأجلها ، قلت لن أتحدّث عن استحقاق الثورة إذ يبدو أنه قد تبخّر بعيد الانتخابات وغَيٍّب نهائيا من أجندات البعض ولم يبق إلاّ تصريف الكلام وتنميق الخطاب. فما نلحظه من اختيارات اقتصادية واجتماعية متّبعة إلى حدّ الآن - لو سلّمنا جدلا كونها اختيارات - هي استنساخ للنموذج الليبيرالي المشوّه الذي اتبعته الحكومات السابقة وأثبتت الوقائع فشله وكارثيته وأفضى من بين ما أفضى إلى ثورة 14 جانفي 2011: خوصصة للقطاعات المنتجة والمربحة، ومشاريع آنية خارج إطار استراتيجية اقتصادية متكاملة واندماجية، وحلول ترقيعية ظرفية لمشكلات هيكلية، وتقيّد مطلق بالرأسمال الأجنبي بل لهث مذلّ وراءه، ومواصلة إهمال القطاعات الاستراتيجية المنتجة حقّا للثروة كالفلاحة، والتعويل على الخوصصة حلاّ أَوْحَدَ وملاذا للتهرّب من الأعباء الاجتماعية مثلما يحدث بخطى حثيثة ولكن بسرية تآمرية في مجال الصحة التي أسقطت من تسميتها «العمومية «بتدبير،وإثقال كاهل الشغّالين وعموم الشعب عبر الترفيع في أسعار المواد الحيوية والزيادة في الأعباء الجبائية وخاصّة منها غير المباشرة ،في حين يعفى عدد من رجال الأعمال من عديد الالتزامات وتضخّ لهم الامتيازات خارج إطار استراتيجية اقتصادية واضحة ودوما في غياب كلّي للشّفافية والرقابة والمتابعة، وغير ذلك مما جُرِّب وثبت إفلاسه من أشباه الحلول التي يتحمّس لها اليوم وزير المالية بمثل حماسته سابقا لتصوّرات تنموية مغايرة تماما لما أصبح ينتهج من سياسات... فإذا عدنا إلى المفاوضات الاجتماعية فعلينا أن ندرك أنّ الحتمية الاقتصادية في مراجعة الأجور تفرض نفسها بعيدا عن الديماغوجية والتخمّر لسببين اثنين على الأقلّ : _ تجشيع الاستهلاك عبر الزيادة في الأجور في إطار اقتصاد يتوجّه ثلث انتاجه تقريبا إلى السّوق الداخلية وتعثّر جزء ثلثه الأخير الموجّهإلى التّصدير في هذه الظروف الاستثنائية _ إنقاذ فئات واسعة من عموم الشعب - بمن فيهم بعض الشرائح الوسطى- من مزيد الغرق في مستنقع الفقر نتيجة غلاء الأسعار وتدهور مقدرتهم الشرائية وثقل أعباء الجباية التي ظلّوا وحدهم تقريبا ملزمين بدفعها . إنّ تباطؤ الحكومة المؤقتة وتردّدها في موضوع المفاوضات الاجتماعية يزيد في تعقيد الوضع وغموضه ، وإنّ ما يزيد في حالة الاحتقان ويرفع درجة التوتّر الاجتماعي، سواء في الجهات أو في القطاعات وبين صفوف المعطّلين أو العاملين، هو تلك التعيينات المشبوهة القائمة على الولاءات والانتماءات في الإدراة وعلى رأس عديد المؤسسات الوطنية، وهو أيضا سياسة المماطلة والتسويف وربح الوقت التي تتعمّدها عديد الوزارات - تماما كما كان يمارس في وزارات المخلوع - وهو زيادة على ذلك تعمّد بعض الوزارات الأخرى التراجع عن الاتفاقات المبرمة والالتفاف على التعهّدات المعلنة وقد يصل الأمر إلى موافقة وزير على منحة ويرفضها وزير آخر ويتعهّد وزير بحلّ مشكل ينقضه وزير ثان... إنّ الإسراع بالتفاوض الجدّي والمسؤول من أجل مراجعة الأجور والتعويض على تدهور المقدرة الشرائية للأجراء وتطبيق الاتفاقات المبرمة من شأنه إشاعة شيء من الاطمئنان لدى الشغّالين وعموم الشعب وقد يزيد توضيح خارطة الطريق السياسي من تعميق هذه الطمأنينة واتساعها في اتجاه إنهاء المرحلة الانتقالية الثانية بسلام والعمل على تحقيق أهداف الثورة التي مازالت معلّقة.