1 تحرير القضاء: تململ من بلاد السباسب يدق أبواب العاصمة. يتجه الاضطراب الذي طرأ على سير مرفق العدالة بالقصرين إلى التهدئة وذلك برغبة من كافة الأطراف حسبما يبدو، ولكن يبقى من حقّ الرأي العام الحقوقي والنقابيّ أن يعرف حقيقة ما وقع ولو بصورة مجملة. فعلى خلفيّة عدم الاسراع في تطهير النظام العدليّ وحين نقول النظام العدليّ فنحن لا نعني بذلك القضاء وحده حصل تململ داخل المحامين المباشرين بالقصرين فتداعوا الى اجتماع يوم الاثنين 19 مارس 2012 بمكتبتهم، وقد تدارس الحاضرون وعددهم 45 محاميا أوضاعهم من كافة جوانبها وتوقفوا بالخصوص عند مواصلة بعض القضاة المعروفين حسب تقدير الحاضرين بالفساد لمهامّهم، وكأن شيئا لم يكن، وهكذا لجأ المجتمعون إلى طريقة الاقتراع السريّ لتحديد قائمة اسميّة في القضاة المعنيّين بكلامهم وتوصّلوا إلى تحديد 10 أسماء بعينها اعتبروا ان ثلاثة من ضمنهم يجب التخلّص منهم بصورة عاجلة ودون انتظار فيما يستحق السبعة الآخرون ان يقع النظر في شأنهم لاحقا. وقد أعلموا وكيل الجمهورية بالمحكمة الابتدائية بالقصرين بنتيجة اجتماعهم، وكأن مقرّرًا ان يعمدوا يوم الاربعاء 21 مارس 2012 إلى التجمّع من جديد واطلاق عبارة «ارحل» (ديڤاج) في وجه القضاة الثلاثة الذين اعتبروا الاكثر فسادًا من قبلهم. ولكن قضاة المحكمة الابتدائية بالقصرين وقضاة النواحي التابعين لدائرتها واطارها الاداري المتكوّن من كتبة المحاكم ومعاوينهم بمختلف اصنافهم بادروا في نطاق ردّ فعل على ما جرى الى الاجتماع يوم الاربعاء 21 مارس 2012 بقاعة الجلسات الأولى بمقرّ المحكمة واعتبروا ما صدر من المحامين سابقة خطيرة واعتداء على حرمة القضاة وأعوان المحاكم ومسّا من أعراضهم وقرّروا الاضراب ليوم واحد وهو يوم الخميس 22 مارس 2012 ثم حمل الشارة الحمراء لمدّة اسبوع مطالبين سلطة الاشراف بفتح بحث ومحاسبة المحامين الضالعين في الموضوع. ولم يتوقف السجال عند هذا الحدّ لانّ المحامين الذين وجدوا مصالح المحكمة معطّلة اجتمعوا بدورهم في نفس اليوم واعتبروا ان مطلب تطهير القضاء «مطلبًا أساسيًّا وشرعيًا واستحقاقًا مبدئيًا من استحقاقات ثورة 14 جانفي» وطلبوا المساندة من كافة هياكل المجتمع المدني ومن الأحزاب السياسيّة». وفي الوقت الذي لم تتدخل فيه الهياكل المركزية للمحامين في الموضوع بصفة معلنة إذ لم يسجّل بشر اي موقف لا من قبل الفع الجهويّ للمحامين بتونس ولا من قبل مجلس الهيئة الوطنية فإنّ جمعيّة التونسيين برئاسة القاضية كلثوم كنّو وهي احدى الهياكل المشرفة على شؤون القضاة، سارعت الى التنديد بالمحامين الذين اجتمعوا بالقصرين واصدرت بيانا مؤرّخا في 23 مارس 2012 طالبة من الوزارة فتح تحقيق في شأنهم ومن هياكل مهنة المحاماة إيقاف التجاوزات الصّادرة عنهم. وتفيد آخر الاخبار بعد هذا وعلى ضوئه ان الامور سائرة إلى التهدئة ولكن تبقى الوقائع هي الوقائع ومن حق الرّأي العام الحقوقيّ والنقابي ان يطلع عليها وقد حاولنا عرضها بكامل الموضوعيّة ودون أدنى تعليق من قبلنا ماعدا اشارتنا إلى أنّ ما يستحق التطهير بعد انتفاضة الشعب انما هو النظام العدليّ برمّته وبكافة مكوّناته من قضاة ومحامين وعدول تنفيذ وعدول اشهاد وخبراء وكتبة محاكم فهذا ما يجعلنا نتمنىّ ان تتعاون كلّ الطاقات الصادقة والمُحِبّة للشعب بهدف صياغة قواعد جديدة لسير موفق العدالة تكون كفيلة بجعله يقطع بصورة فعليّة ودائمة مع كافة مظاهر ورموز الفساد التي تسلّلت الى هذا المرفق وأمسكت ببعض المفاصل المهمّة في كيانه إبّان سيطرة عصابات الاستبداد والافساد التي كانت تتصرّف في مقدّرات البلاد على هواها قبل الانتفاضة الباسلة لشعبنا. 2 المحاماة تنتصر على شروخها لم تكن مشاركة المحامين في انتفاضة الشعب لتمرّ دون ترك شروخ عميقة في كيان مهنتهم، فالمحاماة لم تكن موحّدة منذ البداية في موقفها إزاء الانتفاضة واكبر دليل على ذلك أنها كانت منقسمة قبل 14 جانفي 2011 بين مؤيّدين للسلطة مهما كان عددهم وهم جماعة «الخليّة» ومؤيّدين للحراك الشعبيّ، أمّا يوم 14 جانفي 2011 بالذات فقد انقسم المؤيّدون للحراك الشعبيّ الى مجموعتين توجّهت الاولى منهما الى قصر الحكومة بالقصبة فيما توجّهت المجموعة الثانية في مسيرة تاريخية نحو ساحة محمد علي الحامي تمّ نحو وزارة الدّاخلية بشارع الحبيب بورقيبة بغية الالتحام بالشعب. كان لابدّ في مثل هذه الاحوال ان يتحرّك المحامون بعد هروب الطاغية وفقا لدوافعهم المختلفة فبرز من ضمنهم المساهمون في الاعتصامات والرّاغبون في تقلّد المناصب الحكوميّة وفي تولّى المسؤوليات بمختلف الهيئات الرّسمية ومؤسسو الأحزاب والجمعيات تحت مختلف التسميات ما عكس حيويّة جمعهم ومن حسن الطالع ان كل ذلك قد تمّ دون ان تضيّع المحاماة انسجامها ووحدة صفوفها. لكن يبدو ان المهنة لم تتوقع ان يتخلى احد الذين انتخبتهم لقيادتها عن مسؤوليته ويترك منصب العمادة وهو أهمّ منصب في كيانها ليحصل على منصب وزاريّ في الحكومة التي وقع تشكيلها بعد انتخاب المجلس التأسيسيّ. وهكذا طرأ الاضطراب على مسيرة هذه المهنة وتقاذفت الامواج باخرتها اذ اجمع سبعة اعضاء من مجلس الهيئة على انتخاب الاستاذ شوقي الطبيب عميدًا للمحامين خلفا للاستاذ عبد الرزاق كيلاني ليتولّى سدّ الفراغ ويحاول منع الباخرة من الغرق فيما رأى الستة اعضاء الآخرون انّ العميد الجديد لا تتوفر فيه الشروط القانونيّة لتحمل المسؤولية بل إنّ آحدهم وهو الاستاذ فتحي العيوني قد تقدّم بقضيّة الى المحاكم في الغرض حكم القضاء برفض بعض جوانبها ومازالت بعض جوانبها الاخرى مطروحة للنظر وللنقاش. وتطوّرت الشروخ الى حدّ انه اصبح للمهنة كاتبان عامان هما الاستاذ بوبكر بن النائب والاستاذ محمد رشاد الفري كما انه تمت الدّعوة الى جلستين عامتين متناقضيتين أحدهما ليوم 31 مارس 2012 كانت تنظر في دورة ثانية وبصورة خارقة للعادة في امكانية انتخاب عميد جديد من عدمه وثانية ليوم 30 مارس 2012 دعا اليها الاستاذ شوقي الطبيب ليواصل ترسيخ ما شرع في ترسيخه في الاتماع الذي انعقد بسوسة والذي حضره عدد مهمّ من المحامين المباشرين هناك. في مثل هذه الظروف امسك المحامون المحبّون للمهنة بقلوبهم وهم يرون نذر الانقسام تستبدّ بمسيرة مهنتهم وتخوّف الكثيرون من ان يصبح للمحاماة شقّان قياديان يتصارعان بالبيانات وبالبيانات المضادّة امام وسائل الاعلام وهو امر لم يحصل أبدًا في تاريخ المهنة، كما انه لو حصل ليس فيه ما يشرّف مسيرتها ولكن عوامل الحكمة التي دعا اليها البعض من هنا وهناك انتصرت لحسن الحظ عند النهاية واجتمع يوم 27 مارس 2012 الاساتذة شوقي الطبيب ومحمد نجيب بن يوسف ومحمد الفاضل محفوظ ورشاد برقاش وسعيدة العكرمي وريم الشابي ومحمد رشاد الفري وبوبكر بن الثابت وحاتم مزيو وطارق الزمنطر وأحمد الصديق وعماد بالشيخ العربيّ وعبّروا في بيان أمضاه عن مجلس الهيئة الأستاذ شوقي الطبيب عن حرصهم «على وحدة المحاماة» وقرّروا الغاء الدّعوة إلى الجلستين العامتين اللتين كانتا مقرّرتين ليومي 30 و31 مارس 2012 والدّعوة الى جلسة عامّة خارقة للعادة يكون موعد جلستها الثانية في أجل اقصاه يوم 5 ماي 2012 مع تحديد جدول الاعمال ضمن الدّعوة القانونية التي سيقع اصدارها لاحقا». وهكذا انتعش الامل من جديد لدى قاعدة المحامين في ان المصلحة العليا للمحاماة ستكون هي الغالبة وفي انّ هذه المهنة الشامخة لن يصيبها مهما وقع ما يمكن ان يمسّ بوحدتها او بحريّتها او باستقلاليتها او بنضاليتها، والمرجو ان لا تخيب الآمال في هذا. 3 سجن 9 أفريل: ظلم الذكريات أم ذكريات الظلم؟ مررتُ في الايام الاخيرة امام المكان الذي كان يُؤوي السجن المدنيّ بتونس بشارع 9 افريل بالعاصمة (...) من المعلوم ان هذا السجن قد وقع الاستغناء عنه لفائدة سجن جديد اقيم بعيدا عن وسط المدينة، ولعلّ نقل مركز الايواء السجنيّ بعيدا عن وسط المدينة يمكن ان يكون قرارًا له مبرّراته ولكن الذي لم يفهمه أي واحد من النّاس الى حدّ الآن هو لماذا تمّ مسح البناية التي كانت قائمة في شارع 9 افريل مسحا تاما من الوجود وتعويضها ببعض الشجيرات البائسة؟ هذا السجن أقام به من باب التذكير فقط وطنيّون وسياسيون ونقابيون كثيرون وقضّوا به أعزّ سنوات عمرهم وهم يحلمون بالحريّة لتونس من قبضة الظلم والاستبداد وهكذا فهو يشكل جزءًا من الذّاكرة الشخصية لمن بقي حيّا من هؤلاء الاحرار، وبما انّ الذّاكرة الشخصية للمناضلين امواتا كانوا ام احياء هي عند النهاية جزء لا يتجزّأ من القضايا العادلة التي دافعوا عنها فإنّ هذا السجن يكون بالنتيجة معها معلما من معالم التاريخ ببلادنا. فلماذا امتدّت اليه يد الهدم إذن؟ هل الذين هدموه كانوا يقصدون استغلال قطعة الارض التي كان مقاما عليها لبناء بعض المشاريع لاطماعهم ولمفاسدهم؟ أم انهم تعمّدوا بفعلتهم المساس بذاكرة الشعب كذلك؟ انّ التساؤل لا يمكن في الحقيقة ان يبرّئهم لا من هذه الناحية ولا من الاخرى، فالاتجاهان ممكنان ما يتجه معه اعتبار مسح البناية من الوجود جناية في كلّ الاحوال يتحملها رموز عهد الاستبداد والفساد وتتجه مساءلتهم حولها فلماذا نعود اليوم وبعد انتفاضة الشعب الباسلة للحديث عن هذا المكان؟ وماهو النّفع من هذا الحديث بعد ان اقترف اهل الاستبداد والفساد ما اقترفوه؟ بالطبع لا يمكن ان يكون الهدف من وراء هذا الحديث هو المطالبة بإقامة مأوى سنيّ جديد بنفس المكان ولكننا نقول فقط بالمناسبة إن المكان وقبل ان تجرف المصالح التجارية والانانية لبعض المستثمرين كلّ معانيه مازال بإمكانه ان يتحول إلى منتزه صغير ونظيف يحظى بالعناية الدّائمة وتكون له أنصبة رخاميّة تحتوي على قائمات لكافة المناضلين الذين ضحّوا بأرواحهم أو لحرّيتهم من اجل تخليص تونس من الظلم والاستبداد والفساد. فهذا أقل ما يمكن فعله الآن تجاههم وتجاه تاريخ الشعب.