هل ولى عهد احتكار الاعلام؟ ألم يستخدم اعلام التكنولوجيات الرفيعة في منابر الحرية والاطاحة بالمستبدين؟ ألم يستخدم الاعلام الرقمي في التشهير بانتهاكات الحروب؟ ما هي تداعيات الاعلام الرقمي على الصحافة التقليدية؟ وهل تستخدم التكنولوجيات وأدواتها بأخلاقيات عالية؟ من عصر الصحافة التقليدية، الحارسة المنتقية للمواد المنشورة والمضخمة لانجازات ومكاسب الحكم الشمولي، الى اعلام التكنولوجيات الرفيعة، تعيش مجمل البلدان النامية منذ انهيار جدار برلين تحولات سياسية واقتصادية واجتماعية متلاحقة بفضل سيطرة كتلة واسعة من الجماهير على الاعلام الرقمي الذي وضع حدا لاحتكار الاعلام وساعد المقهورين والمهمشين على محاربة الفساد والاستبداد، واليوم يقدر الاتحاد الدولي للاتصالات عدد الذين يستخدمون الانترنت بثلث سكان العالم، وحوالي اربع مليارات فرد مشاركين في خدمات الهاتف الجوال، اضافة الى تزايد عدد الفضائيات الحرة ايام هبوب رياح التغيير، والسؤال : من منا لا يقر ولا يعترف بأن الجماهير المناضلة التي سيطرت على أدوات تكنولوجيات المعلومات والاتصال، وتمكنت من الوصول الى المعرفة من اعماق منابعها في كل أنحاء العالم، باتت تجمع المعلومات وتصور الاحداث، خاصة منها المتعلقة بمعاناة الناس كالتعذيب والقمع والتهميش وانتهاكات الحروب، ومن ثم نشرها وتشاطرها مع بعضهم البعض بهدف كبح ظاهرة الفساد وكسر شوكة المستبدين والمحتلين؟ ومن منا لا يقر ولا يعترف بأن الجماهير التي كانت تشعر وفي السابق بالعجز وبأنه لا حول لها ولا قوة، اصبحت تلعب دورا بارزا في التحولات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، المحلية والدولية؟ جلنا ان لم نقل كلنا، نقر ونعترف بأن الاعلام الرقمي ساعد كتلة من جماهير الدول المحكومة بأنظمة قمعية ونافية للآخر المختلف، في بدء نحت تاريخ جديد لمجتمعاتهم، عبر دوس الشمولية والاقصاء والفساد، والارتقاء الى عالم الحرية والشفافية والمشاركة في تقاسم السلطة والثروات. كلا، لقد قاد استخدام الجماهير لأدوات الاعلام الرقمي: »الانترنت خدمة الرسائل القصيرة وكاميرات الفيديو في الهواتف الخلوية«، اضافة إلى تعدد الفضائيات الحرة والاذاعات المستقلة، الى احداث تحولات اعلامية عميقة أين تجد الحوار بين مزودي المعلومات ومتلقيها، وصارت الاحداث تصور وتنشر من اجل كبح ظاهرة الفساد والاستبداد، والارتقاء الى عالم الكرامة والحرية، ومع اكتساب هذه الاشكال الاعلامية الجديدة حصة اكبر من القراء والمشاهدين والمستمعين، بات الاحتلال عاجزا عن مواجهة المتظاهرين المسالمين بالهراوات، او قتل وتعذيب المدنيين، او استخدام الاسلحة المحرمة دوليا، دون ان يقع لفت انتباه العالم الى ما يفعله ويستخدمه هذا وذاك، فالهواتف الخلوية التصويرية تلتقط صور القمع والقتل والتعذيب اثناء حدوثها، ومن ثم يقوم اصحاب مدونات الانترنت بإبلاغ العالم بما يحصل. فجلنا، ان لم أقل كلنا، مازال يتذكر كيف ان الاعلام الرقمي ساعد جماهير الدول التي كانت تحت نفوذ نظام موسكو الشيوعي، في تحرير مجتمعاتهم من الاستبداد والفساد. وفي الفيليبين ساعد استخدام الرسائل الهاتفية قصيرة النص في الاحتجاجات الجماهيرية التي أدت في عام 2001 الى سقوط رئيس الجمهورية انذاك »جوزيف استرادا«، بسبب سيطرته على حسابات مصرفية تبلغ أرصدتها 71 مليون دولار من الارباح محققة بطرق غير شرعية وعندما شن جيش الاحتلال الاسرئيلي هجوما على غزة أواخر 2008، قام العديد بتصوير جرائم هذا المحتل، من قتل وتعذيب للمدنيين واستخدام الفسفور الابيض، بواسطة كاميرات الفيديو في الهواتف الخلوية، ثم نشرها على مواقع الانترنت، وعبر الفضائيات الحرة. وحين منعت السلطات الايرانية وسائل الاعلام التقليدية ومن تغطية موجة الاحتجاجات التي شهدتها طهران اثر اعادة انتخاب محمود احمدي نجاد رئيسا لايران، قام العديد بالتقاط وقائع تلك الاحداث بواسطة عدسات الهواتف الجوالة، ومن ثم نقلها الى العالم عبر الانترنت والفضائيات، وفي تونس ساعدت الانترنت والهواتف الجوالة الجماهير في الاطاحة بنظام بن علي الفاسد المستبد مطلع 2011، ومن ثم تصدير الثورة التونسية الى دول شقيقة. وقع الإعلام الرقمي على الصحافة التقليدية العربية ومن انتشار الاعلام الرقمي، سجلت جملة من الصحافة المكتوبة، خلال السنوات الاخيرة تراجعا ملحوظا، وبوجه خاص في البلدان النامية، وقد لا يفسر هذا الكساد في بلادنا العربية، بارتفاع معدلات الأمية في بعض الاقطار العربية لوحده، او بضعف القدرة الشرائية لشريحة واسعة من القراء العرب وحسب، وبضيق الموارد المالية لبعض دور الصحافة والنشر، بل هنالك اسباب رئيسية اخرى لهذه الظاهرة، لعل من ابرزها ما هو مرتبط بعدم تطوير محتوى الصحافة التقليدية العربية، او انها لم تخرج عن دائرة الانظمة الحاكمة. لا جدال في ان يجد المشاهد والقارئ العربي مساحات في وسائل الاعلام التقليدية العربي مخصصة لمتابعة أنشطة الجهات الرسمية وانزال الاحداث العالمية في النقاط الساخنة، ولكن من غير المعقول ان نجد مساحات مخصصة لتضخيم الانجازات وللخطاب التسويقي والدعائي على حساب القضايا التنموية والمعرفية فمعظم القراء والمفكرين المتتبعين لحالة الاعلام العربي يجمعون على ان المساحات المخصصة لأبواب التنمية والتغيير ولقضايا العلوم والمعرفة ضئيلة في مجمل وسائل الاعلام التقليدي العربي، وعادة ما تكون هي الاولى التي يتم تأجيلها او حذفها عند اي طارئ، اذ هي تنظر الى المواضيع ذات الصلة بقضايا التنمية والتغيير وبالثقافة المعرفية والى اشكاليات العصر، على انها قضايا يتم التوقف عندها بالخبر والتعليق والنتيجة، لقد أطلقت كتلة مهمة من الجماهير العربية وسيلتها الاعلامية والتثقيفية هذه، واتجهت نحو فضائيات العولمة المفضلة لديها، لا هروبا من مشقة القراءة والمطالعة وحسب، بل لان هذه الفضائيات المختارة عادة ما ينظر اليها على انها تتصف بالجدية والحياد والمصداقية وتوفر مزيدا من الحقائق والاحداث التي تشبع رغبات المشاهد وتقدم البرامج التي تتماشى مع حاجياته الثقافية وأوضاعه المعرفية، كما اتجهت كتلة من القراء العرب صوب الصحف والمجلات العالمية الاكثر إلماما بهموم ومشاغل الناس، والدسمة في مادة ردم فجوات الفراغ الفكري. قد لا نبالغ في القول إنّه في خضم هذه التحديات التي تفرضها الثورات العلمية المتلاحقة الى حد الأمس القريب، كانت ولا تزال جملة من الصحافة التقليدية العربية مترنحة بين مطرقة عدم الاعتداء على ثقافة التنمية والتغيير، وسندان طوفان الاعلام الاستهلاكي والترفيهي، وحتى عديد القراء والمثقفين العرب يجمعون اليوم على ان مجمل الصحافة التقليدية في البلاد العربية لا تزال في حاجة ماسة الى نقلة نوعية تواكب التحولات التكنولوجية والمعلوماتية السريعة، كي لا نبقى غرباء في هذا الزمن السريع الدقيق، عصر ثورة علوم الالكترونيات والاتصالات والبرمجيات التي أحدثت تغييرات متفاوتة في حياة الشعوب، واصبحت لاعبا اساسيا الى جانب العلوم الطبيعية والاجتماعية والبيئية في ظواهر الرفاهة والمعاناة. وما نود ايضا أعزائي اقراء، ان نختم به هذه الورقة، هو ان بالعلوم والتكنولوجيات تتحسن المردودية وقوة الانتاج، وبالعلوم والتكنولوجيات تتقدم المجتمعات وتزدهر، ولكنها تبقى عرضة للدمار في غياب الوعي والاخلاق أو إذا ما اصبحت التكنولوجيات تُطْلَبُ والعلوم تلبي. لقد دفع عالمنا اليوم ضريبة باهظة بسبب النمط الذي سار عليه استخدام التكنولوجيات للعلوم، من التطبيقات العسكرية الى الاثار السلبية في تطبيق التكنولوجيات بمعزل عن مطالب التنمية المستدامة فالأخطار التي تهدد انسان القرن ال 21 لم تعد منحصرة في الحروب والمجاعة وحسب كما في السابق، بل توسعت لتشمل اخطارا عصرية، مثل الاحتباس الحراري الناجم عن التلوث البيئي، مما خلف اضرارا بالغة في الممتلكات والأرواح، اضافة الى انتشار الامراض الفيروسية والتنفسية وعليه، بات على العلماء والباحثين والسياسيين عدم توجيه الثورات التكنولوجية الى مدار الدمار، وعلى جمهور الانترنت والمدونين استخدام أدوات الاعلام الرقمي بأخلاقيات عالية، كما أنّنا مطالبون جميعا بالتجند لصالح قضايا الديمقراطية والشفافية والتنمية العادلة والمستدامة والحفاظ على سلامة تراثنا البيئي ودعم البحث العلمي لاستئصال الامراض الفيروسية. ❊ علي الجو ادي إطار بنكي حقوقي نقابي باحث وكاتب صحفي في قضايا