بقلم: شكري بن عيسى (*) اخترت الاربعاء ان اخصص كامل اليوم لصالون التكوين المهني الذي يستمر لغاية يوم الخميس بقصر المعارض، ليس للمعرض في حد ذاته ولكن لفهم هذا القطاع الحيوي، او بالاحرى هذا القطاع الاستراتيجي الذي يرتبط به كل شيء في البلاد بل في كل العالم؛ هو يعكس مدى نجاح المنظومة التربوية والجامعية او فشلها، ويعكس حيوية الاقتصاد او جموده وحالة الاستثمار، ومدى التشغيل الكامل للطاقات البشرية والمادية والمالية من عدمه، وتنافسية الاقتصاد وتنافسية الموارد البشرية، انه عصاب الاقتصاد باختصار، بل مرتبط بمدى وجود خيار حضاري من عدمه وبمنظومة القيم في المجتمع المرتبطة بالعمل والابداع والذكاء.. زرت اغلب الورشات الموجودة وخصصت لها اغلب الوقت، وعشت لحظات ممتعة مع الشباب الذي يقدم حالات تطبيقية، فهدفي كان استطلاع حقيقة القطاع ولكن ايضا "وضع اليد في العجين" وتعلم ما امكن من بعض المهارات، آثرت ان أجلس امام المُتكونين (وليس المدربين) لتثمين ما اكتسبوه وتشجيعهم وتقدير ما اختاروه، واكتسبت منهم عديد المهارات، فالقطاع يعاني من بخس قيمته ويعتبر عند الكثير من الشباب مضاهي الفشل والاخفاق في الدراسة والحياة. تساءلت بالمناسبة لماذا لم نعثر على وزراء اختاروا نفس الجولة مثلي، والتعمق في حقيقة القطاع واستثمار تواجد كثير من مكوناته في معرض يجمعهم يحضر فيه كل الفاعلين تقريبا، فلا اعتقد ان مسؤولا في الدولة وزيرا كان او غيره قادر على التسيير المجدي اذا لم يتمكن من أدق تفصيل قطاع التكوين المهني الحيوي، ثم ان تركيز الوزراء والاطارات العليا في الدولة على مثل هذه الوسائط الاتصالية (المعارض والصالونات) يبعث برسالة تشجيعية للشباب المتردد ويرفع من القيمة الاعتبارية للتكوين ويمثل دعاية عالية القيمة في الصدد. وزير التشغيل زياد العذاري الذي لاحظناه في عديد البلاطوهات مرتبكا، منساقا نحو اسلوب "الوعظ" و"الارشاد" ورفع شعارات "المصلحة العامة" و"الوحدة الوطنية" لما يعجز عن تقديم نتائج ملموسة، وتفسير واقع التكوين والتشغيل، اكتفى البارحة بمجرد حضور استعراضي مع رئيس الوزراء، ويبدو انه غير مواكب لواقع التكوين المهني المعقد، وضيّع فرصة للتواجد في الصالون والالتقاء بالشباب والطلبة والمنقطعين على الدراسة والتواصل معهم وتقديم اجابات مباشرة واثبات اقتراب الحكومة من انتظاراتهم وهواجسهم وطمأنتهم، ويبدو كذلك ان الشعار الاخير لرئيس الحكومة حول توجه الدولة للتكوين (والذي يردده صباحا مساء ويوم الاحد الناطق الرسمي) لا يوجد ايضا ما يدعمه في ارض الواقع وسيظل حبيس الاوراق على الاغلب. وضعت جملة من الاشكاليات الفرعية لفهم واقع هذا القطاع ولمقاربته بطريقة ملموسة ولكن ايضا علمية، توجهت للمُتكونين بأسئلتي بحضور مدربيهم للوقوف على الاخلالات، وركزت اساسا على مدى معرفتهم بالمنتوجات التي سيتدربون على حذقها واسعارها ولكن ايضا على قيمة السوق اي مدى وجود طلب على هذه المنتوجات حاضرا ومستقبلا، وهو مبرر التكوين الاساسي اذ لا قيمة للتكوين دون فهم السوق وخاصة مآلها ومستقبلها، في ظل بيئة شديدة التغير والتقلب وعالم مفتوح ومنافسة عالية، اذ لا يعقل ان يكون التكوين خارج حاجيات السوق ولا يمكن ان يكون ايضا خارج مستوجبات المنافسة التي تفرضها عديد المهن والقطاعات، ولا ايضا خارج اطار التطور التكنولوجي، فهذه اعتبارات اساسية عدم اخذها بعين الاعتبار قد تجعل العملية خارج السياق اصلا. اقتصر على اهم الملاحظات دون ان تكون قابلة للتعميم، اولا وجود فجوة واضحة بين التكوين والسوق ومستلزماتها، وغياب كبير لاعتبارات السوق لدى المدربين ومديري المراكز وايضا المُتدربين، فاغلب اسئلتي حول اسعار المنتجات وقيمة الطلب عليها لم تجد اجوبة تقريبا، وتلحظ بجلاء انعزال المُتدرب عن محيطه برغم وجود مشروع تخرج في نهاية التدريب قد يقرب المعني من واقع السوق، ولكن التفاعل بين المؤسسة ومركز التكوين في الغالب اثناء التكوين يكون ضعيفا ان لم يكن مفقودا، وهو العامل الذي يفقد من نجاعة التكوين وينقص من حافزية المُتدرب. من جهة اخرى النقص المسجل في تجهيزات التكوين وخاصة المرتبطة بالتكنولوجيا الحديثة تبعث على الانشغال، اذ وضع التكنولوجيات المتطورة في قلب عملية التكوين هو الذي يمكن المتكون من ميزات تفاضلية ترفع الطلب عليه في بيئة شديدة التنافس، وتجعله مطلوبا حتى على المستوى الدولي، وهذا لا يمنع امتلاك بعض المراكز التكوينية لبعض التكنولوجيات المتطورة التي تميزها على الموجودة لدى بعض المؤسسات الاقتصادية الخاصة، وهو ما يرفع من القيمة المضافة للشهائد التي تمنحها للمتدربين، ولدى بعض مراكز التدريب مثل مركز التكوين بماطر تمت صناعة خزائن كهربائية لحماية المستهلك تكلفتها ب 800 دينار، في مقابل اسعار في السوق لدى الخواص تناهز 4000 دينار حسب المعطيات التي قدمها لنا مدير المركز المعني. غياب الدعاية اللازمة لقطاع التكوين المهني يظل اخلالا واضحا، كما ان الافتقاد للارشاد الكافي والتوجيه المستوجب للمعنيين يجعل من ارساء شباك موّحد للاستقبال والاستعلام ضرورة قصوى، وتبقى ضرورة اسداء تكوين في التصرف في الجودة والتسويق والسوق وبعث المشاريع ملحّة وتعميمها على كل مراكز التدريب، اما ايجاد اليات تدريب وفق الطلب (موجّه) في مدة قصيرة جدا فهي لازمة خاصة للاستجابة لمستلزمات الاستثمار الذي لا يجد في عدة احيان ما يتطلبه نشاطه من يد عاملة مختصة، كما ان الدفع في اتجاه تسويق المراكز لبعض منتجاتها وتجاوز المعوقات الادارية والتنظيمية في الصدد امر مطلوب لتمكينها من تغطية جزء مصاريفها وتطوير نشاطاتها والتفاعل مع المحيط الاقتصادي الذي تنشط فيه فضلا عن رفعها التنافسية في القطاع المعني. نفتقد اليوم الى ارقام دقيقة لمدى تشغيل المتخرجين من مراكز التديب والتكوين، ولكن بين اروقة الصالون يوجد بعض الباعثين الشبان من خريجي مراكز التكوين يعرضون منتوجاتهم بصفة جميلة ويتحدثون عن سعادتهم بما حققوه من نجاح بعد التكوين الذي حصلوه في مراكز التكوين، واكيد العدد والنسبة هامة على الاغلب، التكوين المهني في المجال العسكري مثار فخر حقيقي والمنتوجات مختلفة والاعتماد على التكنولوجيا المتطورة واضح وكنا نتمنى حقيقة الانتقال الى مستوى اعمق في التصنيع وتخصيص استثمارات، فقد تغطي الموارد التكاليف وتمكن تطوير التصنيع وتجنب المؤسسة العسكرية اللجوء للاستيراد ونزيف العملة الصعبة، كما نتمنى نقل التجربة الرائدة واستفادة المراكز المدنية منها عبر شراكات فعلية وتعاون حقيقي. اكيد النجاحات متنوعة وفي المقابل الهنات كثيرة والتحديات متعددة ولكن قطاع التكوين المهني لن يرتقي طالما لم يبوأ ما يلزم من مكانة في منظومة الاقتصاد ومنوال التنمية بعيدا عن الشعارات المستهلكة، فلا بد من استراتيجية واضحة ( باهداف مضبوطة وميزانية كافية) تربط بين ضرورات التنمية والتشغيل وسوق الشغل والاستثمار واعتماد التكنولوجيات والانفتاح على السوق الدولية والبحث العلمي، وكذلك المحيط الاقتصادي، والارادة اليوم تبدو غير كافية ويتضح انه وجب القيام بتقييم شامل وعميق للمنظومة الحالية بالاشتراك مع كل الفاعلين الاجتماعيين والاقتصاديين والسياسيين والجامعة، والاهم هو منوال التنمية الذي يمكن ان يفتح الافق ووجب اليوم مراجعة عميقة للوثيقة التوجيهية للتنمية التي لا تستجيب لما يمكن ان يفتح الافق لعديد الشباب المحبط في خصوص قضية التشغيل المؤرقة. (*) متخصص في الاقتصاد والقانون ومدقق جودة Publié le: 2016-04-21 11:22:14