بقلم: المحامي مبروك كورشيد فكرة طريفة ومغرية ان يثبت التونسيون فى ذكرى الجمهورية أنهم وطنيون ويؤمنون بقيم الجمهورية وذلك بأن يرفع العلم الوطني على كل منزل من منازل البلاد. رفع العلم على المنازل عادة قديمة في تونس وترتبط بالأفراح والمسرات ففي ختان الأولاد تضع العائلة على منزلها العلم للتأكيد على موقع الفرح، وفى السفر إلى الحج تزين المنازل بالإعلام قبل الذهاب وعند الإياب،وحتى السيارات التي تقل الحجيج إلى السفر تكسى به ويعتبر العلم عندها جواز سفر من مضايقات أعوان الأمن في الطرقات. فالتونسيون مغرمون بإعلام بلادهم. هذه المرة ستكسى المنازل التونسية بالإعلام، لا لختان او حج بل احتفالا بعيد الجمهورية وانتصارا لقيمها التي لم نعرفها كثيرا. فالجمهورية الأولى لم تحتف كثيرا بمواطنيها طيلة ما يزيد عن نصف قرن من الحكم الطويل والمرير الذي ذاق الشعب فيه صروفا عديدة من العذاب والتعذيب. ففى الجمهورية الاولى التى يراد ان نحتفل الآن بذكراها عبر رفع العلم عاليا فوق المنازل لم نعرف غير رئيسين وقع الانقلاب على الاول يوم 7 نوفمبر لإزاحته من الحكم بعد ان استبدت الامراض به واجتمعت عليه بطانة السوء التي من ضمنها الثاني الذي ظل فى الحكم إلى ان وقعت ثورة 14 جانفى عليه وهو غافل عن شعبه يخطط للقيام بالتمديد لنفسه والتوريث لغيره من عائلته ومقربيه. وفى الجمهورية الاولى التى ذكرنا استهل الحكم بحمام من الدم بين اخوة الماضي النضالي القريب وعلقت المشانق للمئات من المعارضين بتهم مختلفة وأسست ميلشيات الرعب من لجان رعاية ولجان أهلية بمسميات مختلفة تجمع المختلفين وتقودهم الى محاكمة صورية خنقت الحريات ومنعت الأحزاب وأثارت النعرة الجهوية التى طويلا فقرت الطبقات الوسطى وهمشت القرى والأرياف وتتالت الأزمات فى شهر جانفى مرارا وتكرارا. دخلت الجمهورية الاولى نفقا مظلما في عهد الرئيس بن علي استشرت فيه المافيا وحكم الجاه وجار القضاء على المتقاضين وتغول البوليس. ورغم كل ذلك فإن المواطن التونسى لم يكفر بفكرة الجمهورية وظلت تسيطر على أحلامه ويتمنى ان تبنى دولة المواطنة الحقيقية التى يسود فيها الإخاء الاجتماعي بين الفر قاء وتتداول فيها السلطة سلميا وتشجع قيم العمل ويطال سيف القانون العابثين به المستهينين بسطوته. الانتباه الى قيم الجمهورية مسألة هامة والانتصار لها مسألة أهم. فالمواطنة الكاملة هو ما ينشده المرء لنفسه ولأبنائه وبلده والذود عنها ولو برفع العلم على اسطح المنازل رسالة مضمونة الوصول الى كل من لا يستشعرون قيمة ذلك. هذا اذا كانت الإرادة الواقفة وراء هذا التعبير الرمزي منبهة حقيقة إلى رمزية وأهمية ترسيخ قيم الجمهورية ولم تكن الغاية اختبار القوى استعدادا للمستقبل الذي قد لا يحمل كثيرا من نذر الاطمئنان وفرزا للمقدرة على الاستجابة الى الدعوات مهما كان مأتاها أو بدون معرفة مصدرها حتى. فالمتتبّع لحملات رفع العلم فى المواقع الالكترونية أولا ثم عبر شاشات بعض التلفزيونات التي انخرطت في هذه الحملة وبعض المواقع الالكترونية الكبرى لم يعرف داعما رسميا حزبيا كان او مدنيا يقف وراء هذا الجهد الخارق وهو ما يدفع للتساؤل والاستفهام حول الجهة التي رعت الإشهار ودعمته وعملت على إنجاح حملته. التساؤل حول الجهة التي تقف وراء هذا الجهد الكبير أكثر من مشروع،لأن الخمار الأسود الذي ولعت به فتيات العهد العباسي واعتبرنه رمزا للأنوثة ما كان ليكون لو لم يؤجر تاجرا كسدت بضاعته منه احد الشعراء ليمدحه للحسان فكتب فيه «قل للمليحة في الخمار الأسود ماذا فعلت بناسك متعبد ...» فرأت فتيات بغداد فى أنفسهن كل واحدة مليحة معنية. وقد يتهافت اليوم على العلم نتيجة الإشهار اوالقيم النبيلة التي تحبها الناس فيه ،أما الغايات من ذلك فيجب ان نكون متيقظين منها عارفين بما ظهر من أمرها واستتر. نعم ليرفع العلم على المنازل فى ذكرى الجمهورية الغائبة فإن لم يكن لتجارة وبيع فليكن لشراء بضاعة لا تبور بضاعة حب الوطن.