اعتداء امني على شقيق محامية، وتهجم بعض المحامين على مكتب الوكيل العام بمحكمة الاستئناف في صفاقس، اشعل فتيل الفتنة والازمة بين المحامين والقضاة من جديد. واقعة صفاقس الاخيرة أفاضت الكأس وأثارت حفيظة كافة المحامين، مما دعا الهيئة الوطنية للمحامين، الى إقرار اضراب عام، نفذ في كافة المحاكم. واعلان الهيئة عن الدخول في أسبوع احتجاجي، لم يكن فقط بسبب تكرر الاعتداءات على المحامين من قبل الامنيين، وإنما جاء بالأساس للضغط، حتى يكونوا شركاء في تركيبة المجلس الاعلى للقضاء المرتقب... أزمة مقنّعة وصراع على المواقع قضية الاعتداء على محامية بصفاقس، لم تكن غير ذريعة لتجديد مطالب المحامين، المتعلقة بتمثيلهم في المجلس الأعلى للقضاء بنسبة الثلث، وقد أكدوا على مواصلة تمسكهم بتشريكهم في تركيبة المجلس الاعلى للقضاء، باستنادهم الى الفصلين 102 و105 من الدستور، واللذين ينصّان على أن المحامين شركاء في اقامة العدل، ويرون أنه من الضروري تشريكهم في تركيبة المجلس في الثلث المتبقي، بإعتبارهم شريك فاعل في المنظومة القضائية، وشريك في إقامة العدل، وفق ما ينص عليه الدستور والمعاهدات الدولية، ولا يمكن بأي حال من الاحوال إقصاؤهم، رافضين قرار القضاة بإسناد المهمة الموكولة للمحامين صلب المجلس الاعلى للقضاء الى الاساتذة الجامعيين، خاصة باعتبار أن المحامي أقرب من الأساتذة للمتقاضين، بحكم معايشته اليومية لمعاناتهم، وأنّ المحاماة مؤسسة دستورية شريكة مع القضاء في اقامة العدل، ومن بين مهامها الرئيسية، تحقيق مطالب الشعب التونسي الهادفة الى اقامة مجلس أعلى للقضاء، تكون فيه المحاماة ممثلة تمثيلا حقيقيا وفعليا باعتبارها الجهة الوحيدة المخولة قانونيا للدفاع عن المواطنين والمتقاضين أمام المحاكم. القضاة من جهتهم، ادانوا الاعتداءات المتكررة عليهم من قبل المحامين، واعتبروا ذلك ضربا لهيبة القضاء واعتداء صارخا على حصانة القاضي ومكانته. واعتبروا ان السكوت على مثل هذه الممارسات يعتبر جرما، وطالبوا بالتحرك المباشر لصد مثل هذه الافعال، مؤكدين ان هذه الممارسات وهذه الاعتداءات المتكررة على القضاة، هي ردود افعال من قبل المحامين على رفض القضاة وجود المحامين المباشرين في المجلس، خوفا من الوقوع في إشكال «تضارب المصالح»، وأنّه من غير المعقول أن يكون المحامي متواجدا صباحا في قاعات الجلسات، مترافعا عن منوبيه أمام القاضي، وباتا في المساء في المسار المهني والتأديبي لذلك القاضي، واقتصرت اقتراحات القضاة على أن يتكوّن الثلث المستقل في المجلس من غير القضاة، من الاساتذة الجامعيين، وعلى الاكثر من المحامين المتقاعدين. هذا الصراع حول تركيبة المجلس الأعلى للقضاء، أصبح اليوم ينذر باعصار مرتقب بين المحامين والقضاة، خاصة في ظل تمسك كافة الهياكل القضائية بأن صفة الاستقلالية لا تتوفر في المحامي، باعتباره مكونا أساسيا من منظومة السلطة القضائية، وبالتالي لا يمكن له ان يمارس الرقابة، وهو ما يؤدي الى ان يكون الثلث المتبقي في تركيبة المجلس والمتعلق بغير القضاة من خارج المنظومة القضائية حتى تتم بالفعل الرقابة. أزمة متجدّدة ومتكررة هذه الازمة لم تكن الاولى، بل سبقتها أزمة اخرى تجسمت في إعتداء المحامين على قاضي التحقيق عدد 5 بقصر العدالة في العام الفارط، وهو ما اعتبره القضاة يوما أسود في تاريخ العدالة التونسية. سبب هذا الخلاف وتأزم الوضع بين المحامين والقضاة، كان ظاهريا، الاحتجاج على ايقاف محامية اتهمت بالتحيل على احد موكّليها، مما دفع بقاضي التحقيق الى اصدار بطاقة ايقاف في حقها، وهو ما اثار سخط المحامين، الذي وصل الى حد الاعتداء على القاضي. لكن تبقى الاسباب المباشرة وراء هذا الاعتداء، تأزم الوضع واحتقانه بين المحامين والقضاة، إبان إعلان القضاة عن رفضهم التام لمقترح وزير العدل الأسبق نذير بن عمو، والمتمثل في انتداب عدد من المحامين بسلك القضاء، وهو ما اعتبره المحامون إهانة للمحاماة، وتكبرا من القضاة على المحامين، خاصة أنّ قانون 67 المتعلق بإمكانية انتداب المحامين في سلك القضاء، ما زال ساري المفعول، وأن معظم القضاة المحالين على التقاعد، او الذين يقررون الخروج من سلك القضاء، يجدون باب المحاماة مفتوحا لهم، متى شاؤوا الدخول في سلك المحاماة، وهو ما ادى الى تأزم الوضع بين السلكين، تلته هدنة مقنّعة بين المحامين والقضاة... الخلاف الأخير ساهم في إحياء التوتر الخفي بين الطرفين، واتجهت الهياكل إلى التأكيد على الاحتقان، وتمسك كل هيكل بموقفه في الاضراب، ورفض الاخر، عوضا عن البحث عن آليات مشتركة لتطويق الأزمة. من جهة أخرى تم تبادل الاتهامات بين الجناحين، حيث أكد القضاة انهم عرضة للتهجمات والاعتداءات من قبل المحامين بما يمس من هيبة القضاء وحرمة المحكمة، كما وقع اتهام المحامين بإتيانهم تصرفات مخلة بأخلاقيات المهنة وتسببهم في إحداث الفوضى. وأن ذلك يتطلّب اتخاذ الإجراءات التأديبية والجزائية ضدهم. في المقابل رد المحامون على تلك الاتهامات بقوة منددين بدورهم بتكرر الاعتداءات التي يتعرضون لها يوميا من قبل القضاة، وما رافق ذلك من مس من هيبة المحاماة، وتطاول على حق الدفاع. ويبقى المتقاضي هو الضحية الوحيدة في رحلة التناحر على المراكز والمناصب، وليدفع وحده فاتورة الخلافات الواقعة بين جناحيْ العدالة، ما دام لم يتم توزيع المناصب، وإقتسام السلطة.