«أبي فوق الشجرة».. عنوان مسرحية من أطرف مسرحيات توفيق الحكيم ولا علاقة لها بالفيلم الذي يحمل نفس العنوان الذي لعب بطولته عبد الحليم حافظ.. أما كيف يصعد الأب فوق الشجرة ويجلس عليها ويأتي الابن ليطلب منه أن ينزل قبل ان يسقط وقبل أن يهجم عليه الوحش فذلك هو مسرح اللامعقول عند توفيق الحكيم الذي اراد ان يسخر من خلال هذه المسرحية منه ومن كل المسرحيات التجريبية التي لا تقول شيئا في نهاية الأمر.. وقد تذكرت هذا العنوان صباح امس عندما قرأت عن الأمير تشارلز الذي اعترف في حديث اذاعي لهيئة الاذاعة البريطانية أنه يجد متعة كبيرة في التحاور مع الاشجار في حديقة قصره.. إنه يذهب الى هذه الشجرة او تلك ويجلس أمامها ثم يتوجه لها بالحديث وهو يفعل ذلك كثيرا ومرارا ومن يراه على ذلك الحال يظن أنه مجنون هرب لتوه من مستشفى المجانين.. فهل يعقل أن يتحدث شخص عاقل الى شجرة ويخاطبها وكأنها تسمع وتتكلم وتتجاوب.. وهل من الممكن أن يجلس الإنسان أمام شجرة ويتعامل معها وكأن لها رأيا وسمعا وبصرا ووجهة نظر.. غير معقول على الاطلاق.. ولكن لا أحد يتجرأ على اتهام الأمير بالجنون.. ولذلك فهو يواصل استمتاعه بهذا النوع من الحوار مع الأشجار الذي يسعده ويبهجه ثم أنه يساعده على الاحتفاظ بعقله وهذا حسب اعترافه.. ولو لم يكن تشارلز أميرا وصاحب قصر ووجاهة وسلطة لنقلوه على الفور الى مصحة للأمراض العقلية.. ولكن الموقع الخاص بالإنسان كثيرا ما يحميه ويعطيه حصانة خاصة ومكينة. وقد يكون في ما يمارسه الأمير بعض الجنون الخفيف ولكن من منا ليس له «جنونه» الخفيف الذي يمارسه حتى يحافظ على توازنه العقلي والنفسي وقد نفعل ذلك دون أن ندري وربما دون أن نتفطن الى أن ما نقوم به هو نوع من أنواع الجنون! ومثلما هناك جنون خفيف هناك ايضا جنون لطيف مثل الذي أصيب به أحد الشعراء المعروفين قبل أن يغادرنا نهائيا الى رحمة الله تعالى. كان هذا الشاعر كلما التقيت به الا ويسألني عن الصديق العزيز محمد صالح الجابري رحمه الله وذات مرة دخل الجابري المصحة فلما سألني عنه قلت له: إن المسكين يرقد الآن في مصحة «التوفيق».. واذا بهذا الشاعر ينتفض فرحا ويقول: صحة ليه.. صحة ليه.. اقسم بالله أنني لا أعرف مصحة «التوفيق» ولم أرها الا من الخارج عندما أمر أمامها.. وبعد فترة التقاني هذا الشاعر ليسألني عن صديقي فقلت له أن حالته الصحية استوجبت سفره الى باريس ليجري عملية جراحية على قلبه.. واذا به ينتفض مثل المرة الاولى وهو سعيد ثم يقول لي: «صحة ليه».. ذهب الى باريس وركب الطائرة.. اقسم بالله العظيم أنني لم أركب طائرة في حياتي وأراها فقط وهي تطير في الفضاء.. «صحة ليه».. أما باريس فإنني اقرأ عنها في الكتب والصحف فقط.. والله «صحة ليه».. إنه الجنون اللطيف.. الذي يجعلك تضحك وتنطق أنت كذلك ب «صحة ليه» فتقول عن هذا الشاعر: «صحة ليه» على هذه السذاجة.. وعلى هذه الحالة الطفولية.