اثار المقترح الداعي إلى حرمانِ كلِّ من تمتع بوظائف قيادية خلال فترة حكم بن علي من الترشح في انتخابات المجلس التأسيسي لغطا كبيرا في أوساط الحقوقيين، وكان من تداعياته المباشرة خروج عدد هام من التجمعيين من مخابئهم للتنديد عَلنًا بهذا المقترح رافعين شعارَ "تونس لكل التونسيين"، ولا يمكن أن يمُرَّ مشهد تجمهر هؤلاء أمام مقر مجلس المستشارين بباردو من غير أن يستفزّ المشاعر، فكثير من الناس يرحبون باستبعادهم من الساحة السياسية ظرفيا حتى لا ينغص أحد فرحة الشعب بثورته تحت غطاء "المسامح كريم". منذ فرار الرئيس السابق وانفراط عقد منظومة الفساد التي كان يرأسها تتالت كما كان منتظرا محاولات عدد من النشطاء التجمعيين الاندساس مجددا في المشهد السياسي متذرعين باستحالة تعميم التهمة على الجميع دون أدلة واضحة، محتجين بعلوية القانون ونبل القيم الثورية، داعين المتظلمين إلى تتبع الإجراءات القضائية والاستظهار بأدلة الإدانة، وهذه الحجج جميعها تقبل النقاش والمقاومة والدحض انتصارا لفكرة المحاسبة عبر قرار سياسي استثنائي يعزز الثقة بين الشارع ومن يتولون أمره خلال هذه الفترة التي تقوم فيها الشرعية على التوافق. إنّ التلاحم الرهيب بين أجهزة الإدارة والحزب هي التي شكلت منظومة الاستبداد السياسي والفساد الإداري والمالي وحَمتْها، ومن العبث بمكان أن يتم الآن عمدا تفريكُ رمَّانة التجمع حبّةً حبّةً والدعوة إلى دراسة ملفات قيادييه ملفا ملفا بتعلة النزاهة والشرف، فالمسؤولية الجماعية التي على أساسها انبنى مقترح استبعاد هؤلاء لا يمكن التفصّي منها بادعاء البراءة أو طلب قرائن الإدانة عبر جهاز قضائي محايد ومستقلّ ، فهذا الموقف يعول كثيرا على اهتزاز ثقة التونسيين في الجهاز القضائي ونفورهم من مماطلته في دراسة القضايا وقد فسّر بعض النشطاء تحمس الهيئة لاتخاذ قرار سياسي كهذا بتراخي الإجراءات القضائية التي اتخذتها الدولة لمحاسبة رجال العهد السابق بما جعل كثيرا منهم يخرجون من باب القضاء ويتسللون من نوافذ الأحزاب السياسية الوليدة شاحذين أنيابَهم للفوز بنصيب من الكعكة الديمقراطية. والمحتجون اليوم على اقتراح كهذا كانوا ضدّ إرادة الشعب متواطئين ولو بالصمت الانتهازي الجبان وهاهم يواصلون السير في نفس الطريق ، ممعنين في الصلف السياسي برفع شعارات ديماغوجية فضفاضة مستغلين حالة ديمقراطية كانوا من ألدّ أعدائها... فلا أحد يجادل اليوم في أن تونس قد أصبحت فعلا لكل التونسيين بعد أن كانت ملك يمين بعضهم فقط، ولا يتعارض ذلك البتة مع ألاَّ يكون في المجلس التأسيسي مسؤولون تجمعيون سابقون تجسيدا لطلب الشعبِ القطعَ مع الماضي الفاسد وانتصارا عاجلا للعدالة عبر قرار سياسي توافقي حكيم، فأدلَّةُ الإدانة وقرائنُها أوضحُ من أن تخفى وأسطعُ من أن يتجاهلها من لهم الجراءة دائما على الوقوف ضدّ إرادة الشعب. وإن صدور اقتراح سياسي قوي في مستوى استبعاد التجمعيين من انتخابات المجلس التأسيسي المقبلة يكفكف بعض دموع الأرامل والثكالى والأيتام الذين خلَّفهم نظام السابع من نوفمبر وراءه بعد أن تلاشى مثل خيط من دخان، وتوارى عن الأنظار فزعا من شبح ذاته دون أن يقدر أحد حتى الساعة -ولن يقدر- على محو صرخة ألم السجين ولوعة أم الشهيد وذكرى قبور سكنها رجال آمنوا بأن الحرية ضوء ساطع في آخر نفق الليل الطويل.