لي أحد الأصدقاء اليساريّين من الذين فرّوا إلى فرنسا في السّبعينات بسبب المطاردات السّياسيّة ولم يرجع إلى الوطن إلا بعد انقلاب بن علي سنة 1987، وقد ابتهج ككلّ التّونسيّين بتحوّل السّابع من نوفمبر، وانخرط في التّجمّع المنحلّ ونشط فيه في المهجر، وقبل سنوات من سقوط نظام التجمّعيين انسحب من الطّرح السّياسي وجمّد نشاطه في الحزب الحاكم بسبب ترهّله وضعفه. المصيبة في صديقي اليساري أنّه مازال إقصائيا وإلغائيا في سلوكه و تفكيره، مع العلم أنّه من الذين يقيمون بفرنسا منذ مدّة تقارب الأربعة عقود، ومن الذين يشاركون في الشأن العام هناك، وأيضا من النّاشطين في الحزب الاشتراكي، و رغم هذه التجربة وكلّ تلك السّنوات التي قضّاها بالضّفة الشّمالية للبحر الأبيض المتوسّط لم يتخلّص صديقي اليساري من العقليّة الاقصائية والإلغائية التي حملها معه من وطنه الأم تونس وهوما أعتبره من غرائب وعجائب الأمور، فكيف لشخص يعيش أكثر من نصف عمره ببلاد الغرب ويكون من المشاركين في الشأن العام و المنخرطين في العمل السياسي، ومع ذلك لا يتغيّر ولا يغيّر شيئا في سلوكه وعقليّته، فهل يعقل بعد تلك السّنوات الطّوال أن لا يتغيّر صديقنا اليساري الذي عاش في دول الغرب الدّيمقراطي؟ بعد هذا المثال الحي والحقيقي لا لوم على رفاقه اليساريّين الذين لم يغادروا الوطن والذين رزحوا لعقود تحت حكم إقصائي وإلغائي لنظام استبدادي قمعي وأحادي. مباشرة بعد هروب أوبالأحرى تهريب بن علي زار صديقي اليساري تونس، وقد كان متحمّسا لما يحصل وكان مبتهجا بإنجاز الشّعب التّونسي في التّحرر والإنعتاق، وقد ساهمنا معا في تأسيس جمعيّة تنمويّة، وكنّا لحمة واحدة وتجاوزنا خلفيّاتنا الفكريّة والإيديولوجيّة ورغم أنّنا مختلفين اختلافا جذريّا في المرجعيّات إلا أننا كنّا منسجمين ومتحمّسين للعمل والمساهمة في الارتقاء بأوضاع البلاد . وبعد انتخابات المجلس التأسيسي يوم 23 أكتوبر 2011 التّي صدمته وصدمت رفاقه من اليساريّين والدّساترة والتّجمّعيّين، انقلب صديقنا اليساري مائة وثمانين درجة، فصديقنا شيوعي من جماعة آفاق وقد تحوّل إلى تجمّعي تحت حكم بن علي والآن التحق صديقنا العزيز بجماعة النّداء السبساوي الدستوري التّجمّعي اليساري، وقد تجمّعوا كعادتهم حول الفرد الواحد المنقذ والملهم وتكتّلوا بانبهار حوله ليؤلهوه ويعيدوا أخطاء الماضي مع بورقيبة وبن علي ويدمّروا من جديد الوطن والشعب، وهذا كلّه بسبب حقدهم وكرههم الأعمى لحركة النّهضة التي يعملون على الإطاحة بها وإزاحتها من السلطة وإرجاع جلاّدهم للسلطة بعد مشاركتهم بفعاليّة في الثّورة ضدّه والإطاحة به، فهل يعقل أنّ بعض اليساريّين والعلمانيّين يفعلون الشّيء ونقيضه في زمن وجيز. كما أنّ استغرابي و مشكلتي و مصيبتي في صديقي اليساري أنّه بعد أربعة عقود من العيش بفرنسا بلاد الحرية والديمقراطية، تصرّف معي بشكل إقصائي وإلغائي، فقد حذفني من قائمة أصدقائه على الموقع الاجتماعي "فايسبوك". انتظرته حتى يعود إلى تونس لنتكلّم في الموضوع و لمّا التقينا عبّرت له على استغرابي و انزعاجي من عدم قبوله باختلافي في الطّرح والتّعبير ولمته عن فعلته التي صدمتني وأزعجتني وأثارت حيرتي واستغرابي. دار بيننا حوار متشنّج و قال لي إنّه يرفضنا، فقلت له يا صديقي أنا لم ألتحق بحركة النهضة ولا بأي حزب من أحزاب الترويكا أو أي حزب آخر، كما أنّني أستغرب ممّا تقول فلو كنت من اليساريّين الذين يعيشون في تونس والذين لم يغادروا الوطن لتقبّلت كل ما تقول برحابة صدر، ولكن أن يصدر هذا الكلام والخطاب عن شخص يعيش بفرنسا منذ ما يقارب أربعة عقود، فهل يعقل بعد كلّ تلك السنين التي قضّيتها ببلاد الأنوار أن تنتهج أسلوبا إقصائيا حيال من يخالفك الرأي؛ هذا ما لا أقبل به ولا يستوعبه العقل، فكيف بك أيّها الصديق يا من شاركت في الشّأن العام بفرنسا وانخرطت في العمل السّياسي في الحزب الاشتراكي لعدّة عقود، كيف تبقى عقليّتك متجمّدة و لا تقبل بالاختلاف؟... أنت هكذا فماذا نقول عن رفاقك الذين لم يغادروا الوطن، حقّا إنّها مصيبة والله.