بقلم: مصطفى البعزاوي - يجب التنبيه بشدة أن إثارة هذا الموضوع ليس اصطفافا لمذهب على حساب مذهب أو تأييدا للشيعة على السنة بل هو السعي وراء الحقيقة ودفع إعادة قراءة التاريخ الإسلامي بعيدا عن التضخيم والتقديس. لكن من ناحية أخرى إذا قيل إنك مع الحسين فالجواب هو نعم بدون تردد، بل أدعو الله أن يقبلني هو معه، فمن أكون حتى أنسب نفسي لسيد الشهداء؟ العاشرمن محرم عند البعض يوم صامه النبي صلى الله عليه وآله وأصحابه بحجّة أن اليهود تصومه وهوأولى به منهم لذلك يصومه الناس اقتداء بهذه السنة. وعند البعض الآخرهو"عاشوراء" يوم للحزن والعزاء بمصاب قتل الحسين بن على رضي الله عنهما وأرضاهم في واقعة كربلاء لما كان في طريقه إلى الكوفة. فما يمكن أن يمثله هذا اليوم إلينا نحن في هذا العصر؟ ما يستفزالعاقل و يدفعه للاهتمام بهذا التاريخ هو هذا التقابل بين المعنيين ليتساءل عن سر تعلق الشيعة بعاشوراء في مقابل اعتبار أهل "السنة والجماعة" هذا التاريخ يوما للصوم مجردا عن كل دلالة. يبلغ الاستفزاز مداه عندما نقف على التجاهل المتعمد "لأهل السنة و الجماعة" لجريمة مقتل الحسين وكأنها حدث عابر لا يستحق الوقوف عنده. وبالفعل، في البحث التاريخي وراء هذا التساؤل ينكشف مستورالخلاف بين الفريقين يصل بنا إلى ملامسة بعض مفاتيح فهم واقع العالم الإسلامي و كيف أثرت هذه الجريمة على ماضينا وحاضرنا وربما مستقبلنا. في العاشرمن محرم من السنة الواحدة و الستين للهجرة انقض جيش يزيد بن معاوية، خليفة أبيه، بقيادة عبيد الله بن زياد والي الكوفة على موكب الحسين بن على رضي الله عنهما وفتك به و بأهله ومناصريه الذين لم يتجاوز عددهم السبعين في مأساة دموية أسست إلى تطبيع الجريمة السياسية في وعي المسلمين وكسرت كل الخطوط الحمر في التجرؤ على المقدسات. قطع رأس الحسين وعلق على رمح، وكان أول رأس يقطع في الإسلام، وسيقت نساؤه وأخواته حفيدات رسول الله رأسا- سبايا من الكوفة إلى دمشق مشيا على الأقدام في رحلة عذاب وإذلال وتحقير ليست أقل من حرب معلنة على مقام قرابتهم من خاتم الأنبياء والمرسلين. فكيف يجد الذين يزايدون بسنة الرسول في أنفسهم مودة لمن قطع رأس ورحم رسول الله؟ كيف لا ولم يكن على وجه الأرض بشرمن نسل الرسول غيره؟ فهل هناك "سنة" أحق وأعظم من "سنة" الحفاظ على نسل الرسول نفسه وهوالذي تكلم القرآن عنه بالقول" قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى"؟ فكيف تطمس جريمة قتل الحسين من ثقافة التداول الدعوي التي تفاخربها مدارس السنة والجماعة ؟ في السنة 61 للهجرة لم تتشكل المذاهب الفقهية بعد ولم ينقسم الناس شيعة و سنة كما هم الآن فكيف سكت و يسكت المسلمون عن جريمة بهذا الحجم؟ كيف نسي المسلمون بهذه السرعة مقام قرابة ورحم النبي؟ مظلمة الحسين كشفت غواية الإنسان الأزلية بالسلطة والحكم؛ فالولاء للسلطة والمناصب والمنافع هو في الكثير من الأحيان اقوي من الولاء للرسول، والنظام السياسي الجديد بعدما تمكن منه أعداؤه رجع إلى عصبيته القبلية والعائلية في أبشع مظاهرها، أضيف إليها التجرؤ على المقدسات والتعدي عليها. بعد مقتل الحسين لم تعد هناك قدسية أومقام يحمي أحدا في مواجهة السلطان. وبالفعل، بعد جريمة كربلاء، استباح جيش يزيد مدينة الرسول عاما كاملا لإخماد الثورة و فرض الطاعة بالقوة وهتك الأعراض في موقعة "الحرة" سنة 63 هجري ليصل إلى رمي الكعبة الشريفة نفسها بالمجانيق حيث كان يحتمي بها عبد الله بن الزبير(راجعوا كل كتب التاريخ دون استثناء). بهذا الفرزالقبلي وسطوة القوة والدم تحول الحسين بن علي إلى مجرد معارض يهدد النظام و خطر على السلطة، وأصبح مصدر الفتنة بين المسلمين لذلك استحق ما لحق به من مصير. وهذا هو خلاصة الموقف المسكوت عنه من الحسين عند مدارس "السنة والجماعة" من مفهوم الحكم، لأنها تفرض الطاعة لولي الأمر- و إن كان فاسقا فاجرا ظالما - و تجرم كل من يخرج عنه وعلى هذا سارت الأمة إلى اليوم، لذلك لا نجد في التاريخ الإسلامي استثناء كان فيه للشعب رأي في تعيين الحاكم أوعزله واستقرالرأي على أن الطغيان الذي يحقق الاستقرار أفضل من الثورة و التمرد والفتنة حتى وإن كانت حق. منذ ذلك التاريخ أصبح الناس يخشون ملوكهم ورؤسائهم ويخافون منهم، وليس لعامة الناس والشعب في مواجهة الحاكم الظالم غيرالدعاء والصلاة على لله عسى أن يغير من حاله و يهديه سواء السبيل. قتل الحسين بن علي ومثل بجسده على مرأى ومسمع كل الناس، الذين لم يحركوا ساكنا، ما أسس لمفهوم الاستبداد في النظام السياسي الإسلامي؛ وعلى هذا الأساس استقر مفهوم "الدولة الإسلامية" وحافظ على هذا النمط من الحكم إلى اليوم. وربما نفهم الآن سرتفرد المسلمين بقبولهم الأسطوري للذل المدني والسياسي وما ينجر عنه من فقر وجهل وتخلف من بين كل شعوب الأرض. منذ هذه اللحظة خسرالمسلمون أفضل ما كان لديهم للناس وهو الحق و العدل و محاربة الظلم. أصبحت هذه القيم مجرد مفاهيم تلوكها الألسن وتملأ خطب الوعّاظ و رجال الدين الذين انخرطوا في جهاز الدولة أسوة بأسلافهم وقبلوا بالاستبداد السياسي الذي دخل جيناتهم و ميز كل تاريخهم السياسي. والمفارقة أن التاريخ الإسلامي كان كله كربلاء دون أن ينتبهوا وكأنهم يدفعون ضريبة التخاذل والصمت. كربلاء كانت حاضرة في سقوط الدولة الأموية حيث واجه الأمويون مصيرهم وحدهم بالقتل والإبادة؛ وكانت حاضرة في سقوط الدولة العباسية حين سقطت في يد المغول وأحرقوها عن بكرة أبيها رغم أن الدولة العباسية هي اكبر امتداد جغرافي و بشري اتسعت فيه الدولة الإسلامية وكربلاء كانت حاضرة عند سقوط الأندلس وتعرض ملايين المسلمين للتطهيرالعرقي والديني دون أن يحرك إخوانهم في بقية الأرض ساكنا باستثناء المغاربة، وحتى هذا الاستثناء لم يوقف عجلة التاريخ. وكربلاء كانت حاضرة في الغزو الاستعماري لأن كل شعب كان يتفرج على مصيبة غيره ويعتقد انه غير معني. وكربلاء حاضرة في حصارالعراق الذي انتهى بتدميره، و حاضرة في الجزائرالتي دفعت مئات الآلاف من القتلى ومثلهم ضحايا أحياء. وكربلاء حاضرة في ليبيا عند حصارها والمسلمون يتفرجون، وكربلاء حاضرة اليوم في سوريا حيث يموت المسلمون كل يوم وإخوانهم يتابعون أخبارهم في وسائل الإعلام. كربلاء حاضرة عند كل ظلم يلحق بالمسلمين أينما كانوا و إخوانهم يتفرجون وكأن الأمرلا يعنيهم بدافع الضعف و الخوف أوالانتهازية. كربلاء حاضرة في فلسطين وعلى امتداد أكثر من ستين عاما يقتل الفلسطينيون و يهجرون من أرضهم؛ تهدم بيوتهم فوق رؤوسهم، وتهتك أعراضهم، والعرب يصلون و يصومون و يحجون وكأن شيئا لم يكن. ولأننا نزن المواقف بالمصلحة والتقدير ولا نزنها بموازين الحق والعدل فستبقى كربلاء حاضرة. ستبقى لعنة خذلان الحسين تطاردنا وتشل حركتنا ما لم نحرر الحسين من مظلمة سجنه التاريخي وما لم يسترد اعتباره في وعينا وثقافتنا. لن تكون لنا كرامة أبدا و لن نعرف معنى الحرية والحق ما لم يسترجع الحسين مقامه حتى يصبح رمزا للعزة و مثالا أعلي في الوقوف في وجه الظلم والدفاع عن الحق. لن نبني ثقافة للحرية وللعدل ما دمنا نبيع ونشتري بآيات الله ثمنا قليلا ولم نصوب بوصلتنا التي ضاعت وتاهت منذ أن قتلنا الحسين و بلعنا ألسنتنا زورا وبهتانا. وما زلنا متواطئين.