يبشر موسم الزيتون هذا العام بمحاصيل وافرة، ينتج عن جني قطوفها كمية غزيرة من الزيت، نامل أن يساهم في الرفع من الناتج الداخلي الإجمالي بمئات الملايين من الدنانير وأن يعين على تدارك العجز في موازين التجارة والدفوعات، وان يخفف من حجم البطالة في صفوف القوى العاطلة، وأن ينشط الطلب الداخلي للاستهلاك، فتعود إلى الدوران عجلة التنمية. فمن المتعارف لدى أهل الذكر أن أجور العملة تمثل أحد المحركات الفاعلة في تنشيط الإنتاج، بفضل ما يترتب عن صرف الأجور من زيادة الاستهلاك. ومعروف كذلك أن لموسم الزيتون، طيلة أربعة أشهر، دورا فاعلا في تنشيط العديد من الحرف المتوسطة والصغرى في قطاع الخدمات المرتبطة بأسواق الإنتاج والتمويل والترويج، وفي مقدمتها تشغيل ألف وسبعمائة معصرة. فكم من قرية بأريافنا ينهض نشاطها، بما يتحرك في سوقها من المتاجر و الخدمات الحرفية كالحدادة و النجارة والإصلاح الكهربائي، وشركات النقل، فضلا عن بنوك التسليف و مكاتب التأمين. هذا الإحياء الزراعي الحرفي الخدماتي هو كالعرس الحافل بالأرياف والقرى، قطبه الشجرة المباركة في القرآن، وتاجه القطوف المتدلية من أكمام الأغصان، ونفعه مبذول للغارس والقاطف واللاقط وللجار المسكين ولذي الحاجة. لعل من المناسب التذكير بأن الفضاء الزراعي ببلادنا يشتمل على ستة وخمسين مليونا من أصول الزيتون، في مساحة مليون ونصف من الهكتارات، على ملك مائتين وسبعين ألف عائلة، و إن إنتاج هذه الحقول يتم تحويله إلى زيت في ألف وسبعمائة معصرة، تنتج كمية أدناها 120 ألف طنا ، وأعلاها 225 ألف طنا. وأن سبعين في المائة من الإنتاج يتم تصدير 80% منه إلى السوق الأوروبية، تتراوح أثمانه ما بين 200 مليون دينارا و380 مليونا. يضاف إلى ذلك قيام 10 معاصر بإنتاج زيت الفيتورة الصالح لصنع الصابون و13 وحدة للتكرير والتصفية. المهم فيما تقاسيه البلاد من أوضاع اقتصادية متأزمة، هو تقدير ما يتطلبه قطاع الزيتون ويتيحه من مواطن شغل لجني الزيتون من أغصان 56 مليون شجرة، ونقله إلى المعاصر ثم إلى مواقع الخزن، أو لأرصفة الشحن التجاري، ونعلم أن هذا الطلب التشغيلي يتواصل فيه العمل على مدى 120 يوما من شهر نوفمبر إلى شهر مارس. ويفيد أهل القطاع أن عملية الجني بعد بسط الفرش أسفل الشجرة، ونصب الصرافة، وجمع المحصول، يتطلب ثلاث ساعات لكل زيتونة يباشرها خمسة عمال نصفهم من النساء. وهذا يعني أن محصول هذا الموسم، يوفر جنيه أكثر من 160 مليونا من ساعات العمل لمدة أربعة أشهر، وأن متوسط الأجر اليومي للعامل أو العاملة يبلغ معده عشرين دينار، فضلا عن ثمن التاي والسكر. ويرى أهل الذكر أن موسم هذا العام سيوفر العمل لنحو من 250 ألفا من العملة ذكورا وإناثا، ويدر لكل واحد منهم 2400 دينار، ولجملتهم ما يقارب ستمائة مليون من الدنانير. نستخلص من هذه البيانات الاستنتاجات التالية: أولا: أن موسم الزيتون لهذا العام يمتص نصف القوى الناشطة من العملة العاديين في حالة بطالة، ويوفر لكل واحد منهم ما يمثل ضعف الأجر الزراعي الأدنى المضمون. ثانيا: أن المحاصيل المرتقبة من الزيت توفر إنتاج ما لا يقل عن 200 ألف طن، لفائدة 270 ألف مزارع، مقابل ثلاثة آلاف دينار للطن الواحد. أي ما جملته ستمائة مليون من الدنانير. ثالثا: أن التقاعس عن مباشرة العمل في حقول الزيتون من جانب العاطلين بذريعة ضعف الأجر أو حرية الاختيار أو الاكتفاء بمنحة القاعدين، يترتب عنه خسارة فادحة للمزارعين أولا، و لأرباب المعاصر والنشاطات المرتبطة ثانيا، ولموازين الدولة ثالثا، وللعاطلين أنفسهم رابعا وأخيرا. رابعا: يعلم جميع المسؤولين في الدولة ويتقين جميع فئات المجتمع أن الاقتصاد الوطني، لا طاقة له يتحمل هذه الخسارة، ولا قدرة له ولا للمجتمع بأسره أن يواصل مجابهة معضلة البطالة وعجز الموازين المالية، وارتباك الأوضاع الاجتماعية وانفلات الاستقرار، واستفحال محنة الفوضى. خامسا: أنه من الخلف في باب العقلانية ومن العبث على مستوى الحكم الرشيد أن نسكت عن تزامن بطالة مئات الآلاف من العاطلين مع وجود عشرات الملايين من ساعات العمل المبذولة في السوق، مقابل مئات الملايين من دينارات الأجور المهدورة. سادسا: القرار الحاسم الرشيد، لوقاية الاقتصاد الوطني من هذه الخسارة الفادحة، ولعلاج المجتمع من آفة البطالة، بطالة مقنعة ولتنجية شباب القوى الناشطة من الاستمتاع بالراحة المدفوعة الأجر، ولتعديل تقديراتنا لمقتضيات العمل الإجباري كواجب مدني، هو أن تعلن السلطة الوطنية في أعلى مراتبها عن قانون العمل الإجباري ويقرها على ذلك القرار نواب الشعب، ويستيقن بوجوبه جميع النخب وفئات المجتمع، فإن الإكراه على العمل لمصلحة البلاد واجب وطني، ورعاية هذه المصلحة مقدمة على ممارسة الحرية الفردية، فإنها لا قيمة لحرية مع الخصاصة ولا لحرية لا يقابلها واجب، ولا لحق فردي يتضارب مع المصلحة العامة.