هل هي آية أخرى على الفتنة في ديار سحنون وقد غدوت اليوم، أستاذ عبد الفتاح مورو من ضحاياها الأبرياء: أفضلهم اعتدالا، وأبلغهم حجة، وأدعاهم لبناء تونس القرية القرآنية "آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان". يحزنني أن يكون النيل من حرمتك الشخصية بذريعة الدين، وقد غدوت في اهلك من أنصاره المتبصرين "يبشرون ولا ينفرون". قوامين للحداثة يؤصلون جذورها ، متطلعين إلى آفاق التسامح الفسيح، يرحلون إليها بزاد الوفاء والاعتزاز، في وداعة الإيمان ونصاعة أهل اليقين. وما نقموا منك في شخصك الوديع بل فيما وراءك مما غدوت عند اهلك رمزا لاختيار التدين سبيلا قويمة لعقلنة الوجود، متواضعة لإنسانية الإنسان، واعية بأن الدين طريق للرقي، وباب عريض لممارسة الحرية وسبيل متاحة للانفتاح على الآخر.
يؤسفني، وأنا من أهل تلك الديار، أن تلقى ما لقيت من غلظة بمدينة القيروان، حاضرة المالكية، موطن سحنون وابن غانم وابن الفرات، رواد حضارة الفكر الإسلامي المؤسسة على الحوار، المرسخة للدعوة على الحكمة والموعظة الحسنة والجدل القويم. ليسوا من أهل تلك الديار ولا من احفاد هؤلاء الأبرار أولئك الذين لم يرعوا لك قدرك واستهانوا بمنزلتك واهانوا في شخصك الكريم علما من اعلام الزيتونة المجيدة، ورمزا من رموز السماحة في الدين والقوامة الرشيدة في ممارسة السياسة. إن هم إلا فئة منبتة اتخذت من مدينة عقبة قاعدة بدعة جديدة للدعوة أساسها الإكراه والاستبداد بالرأي، وقد نفرت منه آيات الذكر الحكيم أيما تنفير، وقبحه علماء الشريعة جميعهم، تأسيسا لحرية العقيدة أول مرة في تاريخ الأديان البشرية، تمتينا لحبل اليقين بين العبد وخالقه، وجاعل الحوار مخصوصا لأولي الألباب واهل النظر والعلم، المتدبرين في سنن الكون، المؤمنين بقانون التطور والمنكرين لجمود المقلدين "الذين وجودا آباءهم على امة فهم على آثارهم مقتدون".
للمرة الخامسة أو العاشرة تندلع شرارة الشغب في حواضر بلادنا، دليلا على أن ثقافة الحوار لم تترسخ جذورها في مجتمعنا، ولا تزال في أهلنا فئة أصولية ليسوا من أهل الحوار ولا يرتضونه وسيلة للمصالحة ولا يقبلون بالاختلاف أساسا لمقصد خالق الأكوان الذي جعلنا شعوبا وقبائل لنتعارف، ينكرون سنة التطور المؤسس لكل حضارة، ويتغاضون عن حكمة الدين الذي جعل أحكام الشريعة مبنية على المقاصد الربانية في الكون، وجعل المقاصد مسخرة لتحقيق المصالح وحفظ الضروريات الخمس، وفي مقدمتها حرمة الذات وقداسة العقل.
هؤلاء الشباب "ليسوا قادمين من المريخ" وهم من أبنائنا المتطلعين إلى الخير، ذلك أدعى أن نأخذهم بضوابط المصلحة الوطنية، وان نربيهم على "روحية الحوار" من خلال الاعتراف بأن للآخر فكرا مختلفا عن فكرهم ومنهجا مختلفا عن منهجهم، كما أشاد بذلك الإمام محمد حسن فضل الله في كتابه القيم "الحوار في القرآن". *رادس 07/08/20