بين التقرير النهائي للجنة فينوغراد حول نتائج الحرب الاسرائيلية على لبنان وبين سحب مشروع قرار عربي في مجلس الامن الدولي يدين الحصار الاسرائيلي على غزة اكثر من نقطة استفهام قد لا تجد لها توضيحا قبل تغير الكثير من المعطيات واساليب العمل الديبلوماسي بما يمكن ان يدعو لتصحيح المواقف ويحقق الدفع المطلوب في المحافل الدولية والاقليمية وغيرها فقد بات واضحا ان التعويل على عدالة القضايا العربية وشرعيتها التاريخية لا يمكن ان يصنع الحدث او يؤثر في سير الاحداث. لقد كانت ليفني وزيرة الخارجية الاسرائيلية اول من رحبت على طريقتها الخاصة بتخلي دول عربية عن ذلك القرار معتبرة انه لا يتعين على اسرائيل الاعتذار للاجراءات التي تتخذها للدفاع عن مواطنيها وهو الموقف ذاته الذي يتكرر في تقرير فينوغراد الذي لا يدين اسرائيل في شيء ولايحملها ادنى مسؤولية ازاء شعب لبنان وهو يبقى في نهاية المطاف محاولة لتبرئة ذمة حكومة اولمرت امام الراي العام الاسرائيلي ليس الا، فالتقرير الذي اثار ولايزال يثير جدلا حادا داخل اسرائيل وخارجها لا يتضمن ادنى اشارة او اعتذار ضمني للضحايا المدنيين اللبنانيين الذين استهدفوا جراء استعمال القنابل الانشطارية المحرمة دوليا وهو رغم الانتقادات التي وجهها للمسؤولين السياسيين والعسكريين خلال الحرب لم يخل من تبريرات واضحة لها .اسباب كثيرة من شانها ان تدعو للتوقف عند هذا التقرير الذي يحمل في طياته اكثر من رسالة لاكثر من طرف وهي ان اسرائيل لن تتردد في الدخول في حرب جديدة متى اعتبرت ذلك امرا ضروريا بالنسبة لها وان تقرير فينوغراد ليس نهاية ولكنه منطلقا لعمل تقييمي ضروري لحرب مضت تحسبا لاخرى قد تندلع في كل حين ومن هنا وجب تحليل النتائج وتحديد مواقع الاخفاق والفشل وتحميل كل طرف من الاطراف مسؤوليته فيما حدث ضمانا لمصالح اسرائيل العليا ومصالح مواطنيها... فبعد اكثر من محاولة تعتيم وبعد اكثر من تاجيل صدر التقرير الاسرائيلي حول الحرب الاسرائيلية الاخيرة على لبنان مشتملا على اكثر من خمسمائة صفحة سمح بنشر بعضها ولم يسمح بنشر البعض الاخر لاعتبارات امنية حساسة... وعلى خلاف التقرير الاولي للجنة فينوغراد الذي كان حمل رئيس الوزراء الاسرائيلي ايهود اولمرت ووزير دفاعه ايهود باراك مسؤولية مباشرة في النتائج الكارثية للحرب اللبنانية فان التقرير النهائي لم يكن كذلك وهو ما يعني ان نهاية اولمرت السياسية قد لا تكون وشيكة وان احتمالات تعقد الازمة السياسية والوصول الى انتخابات مبكرة قد لا تكون امرا محسوما على الاقل في هذه المرحلة رغم تعدد الاصوات المطالبة باستقالة اولمرت حسب استطلاعات الراي. واذا كان التقرير جاء ليقر بحقيقة لا مفر لانكارها اوتجاهلها او التقليل من اهميتها عندما اعترف علنا بان الحرب على لبنان سجلت اخطاء كارثية وافتقرت للتخطيط الاستراتيجي ولم تؤد الى تحقيق هدفها الاساسي في القضاء على المقاومة اللبنانية التي اوقعت وللمرة الثانية ما كان يسمى بالجيش الذي لا يقهر في احراجات كثيرة امام الراي العام الاسرائيلي بعد ان كانت نجحت في دحره ذليلا من جنوب لبنان سنة 2000، فان ما لايجب تناسيه او التغافل عنه ان هذا التقرير لم يكن تقريرا انهزاميا تقليديا للاعتراف امام العالم بالخطا كما حدث في مراحل سابقة من التاريخ او للبحث عن سبل اعادة دفع العملية السلمية او تدارك الفرص الضائعة في تحقيق السلام بل انه تقرير داخلي يستهدف الراي العام الاسرائيلي بدرجة اولى ويسعى الى اعادة ترتيب البيت الاسرائيلي ووضع استراتيجيات المرحلة القادمة وما يمكن ان تستوجبه من الجانب الاسرائيلي من استعدادات في حال دخول اسرائيل في حرب جديدة في المنطقة. لقد جاء تقرير فينوغراد بعد اكثر من عام ونصف على حرب الاربع وثلاثين يوما التي شنها الجيش الاسرائيلي على لبنان واعتمد التقرير شهادات عسكريين وسياسيين وجنود وعائلات جنود عن تلك الحرب التي تعمدت القوى الكبرى في مجلس الامن الدولي غض الطرف عن انتهاكاتها الخطيرة وسمحت باستمرارها على مدى اكثر من شهر تكبد خلالها لبنان خسائر لا تقدر بثمن استهدفت البنى التحتية فيه واهدرت دماء وارواح الاف الضحايا مما جعل لبنان تسجل تراجعا اقتصاديا واجتماعيا يقدر بعدة سنوات حسب خبراء لبنانيين انفسهم. تقرير فينوغراد هو الثالث عشر في سلسلة تقارير دابت اسرائيل على اصدارها في ظروف مختلفة ولعل اشهر تلك التقارير تقرير لجنة كاهان عن غزو لبنان سنة 1982 ومسؤولية ارييل شارون في مجازر مخيم صبرا وشاتيلا وهي تقارير تدخل في اطار تقليد اسرائيلي لا يخلو من دهاء سياسي ومن حسابات كثيرة يهدف في جانب منه الى تلميع صورة اسرائيل لدى الغرب وضمان الحصانة للمسؤوليين الاسرائيليين خلال تنقلاتهم في الخارج. لقد ارتكبت اسرائيل على مدى اربع وثلاثين يوما من العدوان على لبنان من جرائم القتل الجماعي والهدم والتدمير وتشريد الاهالي وزرع الالغام ما قد لا يتضح انعكاساته قبل مضي سنوات طويلة ومع ذلك فان قادة اسرائيل يقبلون بتشكيل لجنة خاصة للتحقيق في تلك الحرب واستخلاص الدروس والعبر من مختلف محطاتها وتطوراتها بحثا عن تفادي تكرار نفس الاخطاء اذا ما تكرر السيناريو وهو الامر الذي لا يبدو انه سيدخل التقاليد الديبلوماسية في عالمنا العربي قريبا، حيث لا يزال القبول بالتحقيق في اسباب الاخفاق والفشل والقصور في مجالات حيوية من الامور غير المالوفة ويكفي انه ما قد يعلن في بعض العواصم من فتح تحقيقات حول اسباب سقوط عمارة سكنية على رؤوس اصحابها قد لا يجد طريقه الى النشر ابدا ولا يتسنى محاسبة المسؤولين عن وقوعها...