كانت إعادة فتح المتحف الأثري بسوسة التي تمّ الإعلان عنها يوم السبت مناسبة احتفالية وحدثا ثقافيا وسياحيا بأتم ما في الكلمة من معنى. إذ ساهم هذا الحدث في إدخال حركية غير معهودة على الجهة لاسيما في ظل الركود الذي يخيم على مختلف الميادين والمجالات ويشمل أغلب جهات الجمهورية. وتبيّن ذلك بالأساس من خلال الأعداد الكبيرة من الزوار من مختلف الشرائح العمرية ومن السياح الأجانب ومن زوار هذه المدينة الساحلية من جهات أخرى من أبناء تونس بحثا عن الراحة والاستمتاع في عطلة نهاية الأسبوع مثلما أفادنا بذلك عدد ممن اكتظ بهم الفضاء مؤكدين أنهم لمحوا الإعلان عن الحدث في اللافتات المعلقة بمدخل المدينة والشوارع والمناطق التابعة لولاية سوسة. وقد حضر هذا الافتتاح الذي تم تحت إشراف وزير الثقافة مهدي المبروك وبحضور سفيري اليابان وفلسطين بتونس إلى جانب ممثلين عن السّلط الجهويّة وعدد من إطارات المعهد الوطني للتراث ووكالة إحياء التراث والتنمية الثقافية عدد كبير من العاملين في قطاع التراث والآثار الذين قدموا من جهات مختلفة أيضا. ينتصب المتحف الأثري وسط المدينة العتيقة بسوسة. لقد لبس حلة جديدة تستجيب للمقاييس ومواصفات المتاحف العالمية العلمية مثلما أكد ذلك وزير الثقافة بالمناسبة. يعد هذا المتحف الثاني في العالم من حيث تراث الفسيفساء التي يحتويها وتم إنجازه بكفاءات وخبرات تونسية بمساعدة خبرات أجنبية. وأعلن بالمناسبة عن تسمية رضا بوصفارة مديرا مؤقتا لهذا المتحف الذي لا تزال أشغال تهيئته متواصلة في بعض أركان الفضاء. أما فيما يتعلق بالتكلفة الجملية للبناء والتهيئة لهذا المشروع فقد تجاوزت أربعة آلاف دينار مثلما أكد ذلك المدير العام لوكالة إحياء التراث والتنمية الثقافية باعتباره الهيكل الذي أشرف على هذا المشروع الذي ساهم في انجازه البنك الدولي. رحلة في الزمان والمكان وتجدر الإشارة إلى أنّ المتحف الأثري بسوسة ينتصب على جزء من القصبة يشرف على كامل المدينة كان أنشئ منذ سنة 1951. إلاّ أن تردّي حالة المتحف وضيق مساحته وعدم قدرة الفضاء على عرض التحف الأثرية فضلا عن تعرض المدينة العتيقة للزحف العمراني الذي هدّد خصوصيتها وجماليتها على غرار السجن والثكنة من العوامل التي دفعت المعهد الوطني للتراث لاتخاذ قرار غلقه سنة 2007 بهدف إعادة تهيئته وهو نفس تاريخ انطلاق المشروع الذي تم إنجازه على مرحلتين. تمثلت الأولى في هدم المباني الطفيلية وترميم الأسوار المتضررة وتركيز الخدمات في المحلات التاريخية الواقعة في الصحن الشمالي والصحن الجنوبي للفضاء. أما المرحلة الثانية والتي دامت مدة إنجازها مثلما أكد ذلك رضا قاسم المدير العام لوكالة إحياء التراث والتنمية الثقافية دامت سنتين ونصف. وتبلغ مساحة قاعات المتحف المقامة تحت أرضية الفناء الأكبر للقصبة نحو ألفي متر مربع. تغطيها أضواء طبيعية واصطناعية تساهم في إبراز المجموعات المتحفية وخلق مناخات للعرض أظهرت قدرة كبيرة وعمل متميز للتقنيين والمصممين ما أضفى أجواء خاصة على الأجنحة. بالمتحف واحدة من بين أضخم مجموعات الفسيفساء بالعالم يعرض المتحف مجموعات متنوعة تتكون من عدد كبير من اللّوحات الفسيفسائية والمنحوتات والأثاث الجنائزي والتماثيل والمسلات والنصب النذرية الحجرية التي تعود إلى العصور القديمة والحضارات المتعاقبة على منطقة الساحل. وهو ما تبرزه الأرضيات الفسيفسائية التي تعود إلى العصر الروماني والتي تعد واحدة من أضخم المجموعات في الحوض المتوسّطي نظرا لما تحيل إليه من ثراء في المعاني والدلالات التي يمكن اكتشافها من خلال الألوان النابضة بالحياة والتكوينات الفنيّة وما تحيل إليه من معتقدات وألعاب والنشاط الفني والإنساني في الحقبة الرّومانية المتمثلة في الأواني المصنوعة من الفخار الأحمر الفاتح وما تحويه من زخرفة التي تم اكتشافها في سوسة وفي المواقع الأثرية المجاورة إضافة إلى التمثال الشهير «للمرأة الثملى» المعروض في قاعة خاصة بالعصر الروماني. ويضم المتحف قاعتين أخريين تميزت بنوعية الإضاءة التي يمكن أن تحمل الزائر لأروقتها إلى عيش لحظات من الزمن الغابر الذي تعود إليه نظرا لما تتميز به الإضاءة من أشكال العتمة على غرار القطع المرتبطة بالطقوس اللولبية البونية التي تخصص لها قاعة خاصة وتضم مسلات وجرار جنائزية تم العثور عليها بمعبد «التوفيت» بسوسة التي كانت تعرف سابقا ب»أدريم» علاوة على الأثاث الجنائزي الذي عثر عليه في الحفريات المجراة داخل القصبة. من جهة أخرى تعرض القاعة المخصّصة للحقبة المسيحيّة مجموعة اللّوحات الفسيفسائية والمسلات والنقوش الجنائزية التي تم العثور عليها في السراديب تحت الأرضية بمدينة سوسة وهي تعد الأكثر أهمية في العالم القديم بعد تلك الموجودة بروما. سوف لن يقتصر المتحف على تقديم التراث المادي ودعوة الزائر إلى القيام برحلة في التاريخ بل يتعدّاه إلى تخصيص فضاء شاسع يخصص لتنظيم الأنشطة واحتضان التظاهرات الفنية والثقافية وغيرها من الأنشطة السياحية وغيرها على نحو يساهم في تنشيط الجهة والمساهمة في خلق موارد التنمية بالبلاد.