- ليس من الغريب أن تتمخّض سنوات التصحّر السياسي خلال حكم الديكتاتورية عمّا يشبه الطوفان من النشاط الحزبي والجمعياتي. غير أنّ ما ينذر بالخطر هو عدم التفطّن إلى أنّ ممارسة العمل السياسي الحزبي خلال هذه الفترة الانتقالية التي لم نتخلّص فيها تماما من النظام ومن الثقافة السياسية التقليدية هي أشبه بالإصرار على اللعب في ميدان لا يصلح للعب وبدون تحكيم أو قواعد متّفق عليها وبجمهور ينزل ليشارك في اللعب متى شاء. أي أنّ من يمارس السياسة اليوم في تونس ما بعد الثورة يفعل ذلك وفقا لنظام ولثقافة سياسية تجاوزها الزمن وأنّ الرهان الحقيقي يكمن في التوافق على بناء نظام سياسي حديث وقابل للاستمرار. فالحزب مازال عند الكثيرين يشبه القبيلة والسلطة ليست في تصوّرهم أكثر من غنيمة توزّع حسب الولاء فالتحدّيات الكبرى التي تواجهها البلاد تتجاوز الأحزاب ولا يمكن التنافس حول أحقّية رفعها إلاّ بعد بناء الأرضيّة السياسية الملائمة. ولذلك فلا بدّ من إعادة هيكلة النظام السياسي بشكل يتجه إلى مصالحة المجتمع مع نفسه وإدماج كلّ قواه الفاعلة قبل التصدّي إلى التحدّي الأكبر وهو التحديث الشامل وصولا إلى تجاوز صدمة التأخر التاريخي التي لا زلنا نتخبّط فيها منذ القرن التاسع عشر. إنّ بناء نظام سياسي جديد ينطلق دون شكّ من كتابة الدستور. غير أنّ الأهمّ يكمن فيما يتمّ الاتفاق حوله ويستوعبه المجتمع بما في ذلك قواعد سلوك سياسي تتجاوز الجانب القانوني. وإذا كان وضع دستور قد لا يستغرق أكثر من بضعة أشهر فإنّ إرساء نظام سياسي جديد وتغيير الثقافة السياسية يتطّلب فترة زمنية يصعب تحديدها. وربما يكون من الضروري استحضار أسباب فشل دستور 1861 ثمّ دستور 1959 والتي من بينها أنّ كليهما كانا تحت سلطة الحاكم لا فوقها وعوض أن يقيّد الدستور السلطة فكثيرا ما كان يعدّل لخدمتها.كما أنّ النظام السياسي التونسي منذ دولة الاستقلال لم يصل إلى إدماج كامل لقوى المجتمع بل أقصى جزء من تلك القوى وعوّضها بحزب يدّعي تمثيل الجميع. وهو أيضا لم يسمح باستيعاب التناقضات بين المعارضة والسلطة ولا بين المصالح التي تمثّلها مختلف الفئات والشرائح مما تسبّب في تعطيل واضح لحركية المجتمع. فلا اليسار ولا الإسلام السياسي ولا حتّى جانب هامّ من الحزب الدستوري ( التيار اليوسفي) وجد تعبيرا له في النظام السياسي القديم. إنّ بناء نظام سياسيّ يتّسع للجميع يبقى في متناول المجتمع التونسي الذي عبّر عن تلك الرغبة من خلال الثورة بل وكان له قبلها تجارب لعلّ أهمّها وثيقة 18 أكتوبر 2005 التي جمعت تيارات مختلفة على أرضية مشتركة تجسّد طموحا لوضع أسس نظام سياسي مستقبلي. وذلك ما يعتبر مؤشرا على نضج المجتمع المدني والسياسي التونسي كحصيلة لعقود من التطوّر رغم ما حصل بعد الثورة من تجاذبات. أمّا الغاية الأسمى من إعادة تشكيل النظام السياسي فهي تحقيق أهداف التحديث الشامل للمجتمع. فقد فتحت الثورة أمامنا فرصة تاريخية لقيام موجة جديدة من التحديث تكون منبثقة من احتياجات المجتمع بعد ثلاث موجات تحديثية فرضت عليه بشكل من الأشكال. وكانت الأولى انطلاقا من عهد أحمد باي والثانية رافقت الاستعمار في حين تجسّدت الموجة الثالثة في الجهود الضخمة التي قامت بها دولة الاستقلال. لقد أصبح من الممكن الآن استكمال الحوار أو الصراع بين التراث والحداثة بشكل طبيعي بعد أن قطع الاستعمار ذلك الصراع ثمّ كبتته الدولة المستقلّة. ورغم أنّ هذا قد يعني عودة إلى الوراء فهو على الأقلّ يمنح الأمل في انطلاقة صحيحة. ولعلّه ليس لنا من خيار سوى التسليم بذلك بعد أن فشلت النخبة في إنجاز تحديث اجتماعي واقتصادي مقبول من طرف الجميع وفي إيجاد توافق واسع النطاق حول دور الدين في المجتمع وحول التنمية ومقاومة التفاوت بين الجهات وبين الطبقات. ولعلّ ما يفرض مبدأ التوافق في صياغة الدستور وفي بناء النظام السياسي هو أنّ النظام التقليدي وممارساته من محسوبية وفساد بل ومن عقلية مخزنية لم تسلم منها حتّى الأحزاب التي تدّعي الحداثة. ولذا فإنّ الصراع من أجل التحديث السياسي هو أيضا صراع مع أنفسنا ومع التخلّف الذي قد يكون أعدل الأشياء توزيعا بيننا! ٪ باحث وكاتب