- يكاد ينحصر النقاش الدائر حول التنمية بعد الثورة في كيفية رفع نسبة النموّ الاقتصادي وخفض البطالة وزيادة حجم الميزانية المخصّصة للجهات الداخلية وبعث المشاريع فضلا عن تعبئة الدعم المالي الخارجي. ولكنّ كلّ ذلك لا يخرج عن نمط التفكير الذي كان سائدا في الماضي، مقابل دعوة البعض إلى تغيير «منوال التنمية» بطريقة لا تبتعد كثيرا عن الشعارات. غير أنّ منوال التنمية الذي كان متّبعا في بلادنا ليس أسوأ ما وجد في العالم لولا الفساد الذي نخره وبدّد الثروة التي تراكمت على المستوى الوطني. أمّا أهمّ عيوبه فهو أنّه وضع لنفسه مقاييس كمّية كلاسيكية مثل نسبة النموّ ومستوى الدخل الفردي ومؤشّر التوازنات الاقتصادية العامّة دون نظر إلى نصيب المواطن الفعلي من الثروة الوطنية. وهو ما يعني إهمالا لمؤشّر التنمية البشرية الذي تبنّاه برنامج منظمة الأممالمتحدة للتنمية منذ بداية التسعينات من القرن الماضي وإن كانت هناك محاولات في هذا المجال بقيت دون المأمول. ويعتمد المؤشّر المذكور كما هو معروف على المعطيات المتعلّقة بثلاثة عناصر جوهرية هي التعليم والصحّة والتناظر بين الدخل الفردي والقدرة الشرائية انطلاقا من تعريف التنمية البشرية على أنّها «توسيع مجال الاختيار أمام الفرد». ولعلّ تطبيق مقاييس التنمية البشرية بصفة جدّية وبما يتماشى مع خصوصياتنا الاقتصادية والاجتماعية والثقافية يمكن أن يشكّل مساهمة كبرى في إرساء العدالة الاجتماعية وتحقيق التوازن الجهوي. إنّ مفهوم التنمية البشرية قد لا يتحقّق فعليّا إلا في مجتمع ديمقراطي تكون فيه الدولة جزء من عملية التنمية. ويفترض ذلك التزام المجتمع المدني والأفراد بالمساهمة في تنمية البلاد إلى جانب الدولة وتحمّل المسؤولية التي ليست في نهاية المطاف سوى نتيجة منطقية للحريّة ضمن عقد اجتماعي جديد يقطع مع عهد كانت فيه دولة الاستبداد تلزم الناس «بواجب الطاعة» مقابل التكفّل بتحقيق «التنمية الشاملة». فالحريّة والديمقراطية هما في حدّ ذاتهما عاملا تنمية كما أثبتت دراسات عالم الاقتصاد الهندي أمارتيا سن الحائز على جائزة نوبل عندما برهن على أنّ وجود المعارضة والقضاء المستقلّ وحريّة الصحافة والتعبير قد أنقذ مناطق كثيرة من المجاعة في الهند خلال الستينات من القرن الماضي بما أتاحه ذلك من ضغط على الحكومة وأجهزة الدولة عموما. ولإنجاز هدف رفع مؤشر التنمية البشرية حسب المقاييس العالمية ينبغي أولا زيادة الاستثمارات المخصّصة لتحقيق هذا الهدف وفقا لمخطّطات التنمية مع إعطاء الأولوية للمناطق التي يسجّل فيها المؤشّر نسبا أضعف من المعدّل الوطني عبر إنجاز مشاريع ملموسة. ولا بدّ ثانيا من توفير حوافز جبائية وامتيازات قانونية مباشرة وغير مباشرة مثلا للصيدليات ولأطباء الاختصاص في المناطق المحرومة. في حين يجب في مستوى ثالث دراسة إمكانية اعتماد نظام الحصص أو ما يسمّى بالتمييز الإيجابي لصالح الجهات الأكثر فقرا. وإذا كان الجانب الصحي الذي يشمل أساسا أمل الحياة ووفيات الأطفال والنساء عند الولادة قد تحسّن نسبيا في السابق، وإن بشكل متفاوت بين الجهات وبين الجنسين، فيمكن تحقيق نتائج أفضل سواء بوسائل الدولة أو بتشجيع جمعيات المجتمع المدني للمساهمة في ذلك. أمّا في مجال التعليم فيستحسن التركيز على عنصرين هما من ناحية جهود رفع الأمية ضمن مخطّط جديد أكثر طموحا ومن ناحية ثانية ما تتيحه وسائل تكنولوجيات الاتصال والانترنت. وتبقى مسألة الدخل الفردي في علاقتها بالقدرة الشرائية معطى دقيقا يمنع التلاعب بالأرقام المطلقة ويسمح بتقييم عمل الحكومة بشكل أكثر موضوعية . لعلّ أهميّة مؤشّر التنمية البشرية تكمن في كونه لا يرتبط بمنوال معيّن للتنمية. وذلك يعني أنّ التنمية الاقتصادية والاجتماعية ربّما لا تتطلّب إعادة اختراع العجلة كما يقول التعبير الفرنسي، بل استعمال أرقى ما وصل إليه التفكير والممارسة الاقتصادية في العالم. ولكنّ أساس كلّ ذلك هي الشفافية ومحاربة الفساد وثقافة الواجب مع نبذ عقلية الاتكال على الدولة، وهي قيم ومبادئ قريبة من أذهاننا إلى حدّ البداهة وإن بدت بعيدة عن واقعنا إلى حدود اللامعقول. * باحث وكاتب