كثيرة هي الزيارات المعلنة، وغير المعلنة، التي يقوم بها مسؤولو الدولة العبرية لواشنطن. إلا أن المراقب لما ورد في وسائل الإعلام الأمريكية والإسرائيلية عن الزيارة المرتقبة التي سيقوم بها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتياهو إلى واشنطن الأسبوع القادم، يدفع إلى الاعتقاد بأن الملف النووي الإيراني، تحديدا، هو ما سيبحثه نتنياهو مع مضيفية الأمريكيين. أسابيع قليلة فقط فصلت بين زيارة نتنياهو المقبلة وزيارة رئيس جهاز المخابرات الخارجية الإسرائيلي "الموساد"، تامير باردو، التي أثارت الكثير من نقاط الاستفهام لجهة كيفية الإعلان عنها ولجهة توقيتها وما سيترتب عنها. كيف حدث ذلك؟ كانت الجلسة السنوية المفتوحة التي عقدتها لجنة شؤون الاستخبارات التابعة للكونغرس الأمريكي في 31 جانفي الماضي، ستمر مرور الكرام شأنها شأن بقية الجلسات التي تعقدها مختلف لجان الكونغرس، هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى، ما كان لأحد أن يعلم بالزيارة السرية التي قام بها تامير باردو، رئيس جهاز المخابرات الخارجية الإسرائيلية، الموساد، إلى العاصمة الأمريكيةواشنطن في الأسبوع الماضي لولا "الهفوة" التي ارتكبتها دايان فاينشتاين، رئيسة لجنة شؤون الاستخبارات في الكونغرس الأمريكي. كان موضوع الجلسة "تحديات الأمن القومي الأمريكي". ناقش الحاضرون وهم؛ بالإضافة إلى أعضاء اللجنة الخمسة عشر، رئيس وكالة الاستخبارات الأمريكية، ديفيد بيتريوس، ورئيس مكتب التحقيقات الفيدرالي روبيرت مولر، ورئيس وكالة الاستخبارات القومية جيمس كلابر، وهي أعلى جهاز استخباراتي أمريكي، قضايا أمنية واستخباراتية يعدونها تشكل تهديدا مباشرا للأمن القومي الأمريكي مثل تنظيم القاعدة وباكستان والعراق وتداعيات ما يجري في الشرق الأوسط جرائم الإنترنت والملف النووي الإيراني. تمثلت "هفوة" رئيسة اللجنة في سؤالها لرئيس وكالة الاستخبارات القومية جيمس كلابر عما إذا كانت إسرائيل ستقصف المنشآت النووية الإيرانية، أجابها كلابر بأنه يفضل الرد على سؤالها في جلسة مغلقة. واصلت فاينشتاين حديثها معلنة أنها التقت هي أيضا برئيس الموساد تامير باردو والأمر نفسه قام به رئيس وكالة الاستخبارات الأمريكية، ديفيد بيتريوس. كان الاجتماع سيمر عاديا كغيره من الاجتماعات التي يعقدها السياسيون يوميا تحت قبة الكونغرس لولا وجود تفصيل صغير؛ جرى تسجيل وبث كل ما دار من حديث مباشرة عبر قناة (C-SPAN) التلفزيونية. في الحقيقة، لا يعتبر طرح واشنطن (وتل أبيب) للملف النووي الإيراني هذه الأيام بالأمر الجديد. بل هو كان حاضرا لما يزيد عن عقد من الزمن وعرض على ثلاث رؤساء متعاقبين؛ كلينتون وبوش الابن وأوبامان وبسببه تقاطر على العاصمة الأمريكية الكثير من السياسيين ورجال المخابرات الإسرائيليين والأوروبيين والكثير من حكام الخليج العربي. وعلى مر السنوات تناولت وسائل الإعلام الكثير من التسريبات والتوقعات بضربة إسرائيلية وشيكة لكن شيئا لم يحدث. ما الذي يجعل الأمر مختلفا هذه المرة؟ هناك عوامل أربعة جعلت من مسألة سعي إيران إلى اكتساب قدرات نووية سلمية أو عسكرية، مسألة في غاية الإلحاح تدفع باتجاه سعي إسرائيل والولاياتوالمتحدة ودول الخليج تتفق على ضرورة توجيه ضربة عسكرية تبادر بها إسرائيل أولا وتنجر إليها الولاياتالمتحدة لاحقا. العامل الزمني تشير التقارير المتداولة هذه الأيام إلى عزم إسرائيل تنفيذ ضربات عسكرية خلال الربيع أو الصيف القادم ضد المنشآت النووية الإيرانية التي تجمع معظم الأجهزة الاستخباراتية أن عددها بلغ 16 منشأة موزعة على مختلف المناطق محفورة عميقا تحت الأرض يصعب هدمها حتى لو تم قصفها بالقنابل الخارقة للتحصينات (Bunker Buster). كما نجحت طهران في تركيب وتشغيل أجهزة طرد وتخصيب متطورة مما سيمكن طهران من قدرات هائلة على تخصيب كميات كبيرة من اليورانيوم خاصة في منشأة قم التي تقع في جبال فرادو في عمق الأراضي الإيرانية التي يصعب على الطيران الإسرائيلي الوصول إليها بسهولة. شمل ما بحثه رئيس الموساد تامير باردو مع نظرائه الأمريكيين هو إمكانية منع، أو تعطيل، نجاح طهران في تشغيل منشأة قم ونطنز وبوشهر تشغيلا كاملا بحيث يصبح من المستحيل قصفها لما سيترتب عن ذلك من إشعاعات نووية تصل إلى إسرائيل نفسها في ضوء تقديرات استخباراتية تقول إن إيران ستصل إلى تلك النقطة في موفى السنة الجارية. من جهتها، تصر إيران على القول إن برنامجها لتخصيب اليورانيوم هو لاغراض مدنية وقانوني بموجب معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية خاصة أن مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية لا زالوا يراقبون عن كثب معظم المنشآت التي أعلنت عنها طهران للمنظمة الدولية. علما أن بيانات استخباراتية تم الحصول عليها بفضل أجهزة عالية التقنية للكشف عن النشاط الإشعاعي وضعتها أجهزة المخابرات الامريكية والاسرائيلية بالقرب من المنشآت النووية الإيرانية تؤكد أنه لم يتم، إلى الآن، العثور على كميات كبيرة من المواد المشعة. فشل الحصار يدرك الإسرائيليون تماما مدى جدية وخطورة الإقدام على خطوة عسكرية ضد طهران وبالتالي عليهم أن يقنعوا واشنطن بمدى عدم فاعلية الحلول البديلة لتعطيل حصول الإيرانيين على التكنولوجيا النووية. تخضع طهران لعقوبات سياسية وحصار اقتصادي وبنكي ونفطي كلفها أكثر من 60 مليار دولار إلا أن ذلك لم يؤثر على عرقلة تطويرها لبرنامجها النووي وذلك بفضل الدعم الروسي والصيني والكوري الشمالي، إلى حد ما، الهندي. استراتيجيا، لا تشكل الترسانة النووية الإسرائيلية رادعا يحميها من رد انتقامي إيراني تكون نتائجه كارثية على الدولة العبرية وذلك بسبب الضيق الجغرافي والتعداد السكاني المحدود الإسرائيليين، إلا أن ذلك لا يمنع من قدرة إسرائيل على توجيه ضربة ثانية مدمرة في حال تعرضها لهجوم شامل. وفي صورة حصول إيران على القدرة النووية لاستخدامها لأغراض دفاعية ردعية بحتة أي ليست هجومية، ذلك سيخلق إرباكا عسكريا وإستراتيجيا يقلب الوضع القائم (Status Quo) رأسا على عقب وذلك بسبب القرب الجغرافي بين البلدين (2000 كلم فقط تفصل إيران عن إسرائيل)، علما أن كلا البلدين لا يملكان أنظمة تحكم وسيطرة تحول دون هجوم صاروخي نووي وأنهما يفتقدان إلى القدرة على البقاء في حال بادر أحدهما بمهاجمة الآخر نوويا. كل هذا، سيدفع بهما إلى السباق أيهما سيبادر بهجوم استباقي ضمانا لبقائه على قيد الحياة. في ضوء هذه المعطيات، يمكن إدراج مبادرة إسرائيل الآن بمهاجمة المنشآت النووية الإيرانية بكونه ضربة استباقية للحيلولة دون حصول سيناريو الدمار المتبادل (Mutual Assured Destruction). حرب استنزاف إسرائيلية- إيرانية يشكل عراء المجال الجوي العراقي حاليا فرصة ذهبية لإسرائيل لتنفيذ هجوم مباغت على المنشآت النووية الإيرانية التي يمكن أن تصل إليها مقاتلات سلاح الجو الإسرائيلي وفقا لما ورد على لسان دان ميردور، وزير الاستخبارات والطاقة الذرية، إذ يتدرب الطيارون الإسرائيليون منذ مدة على قصف إيران في قاعدة هاتزيريم الجوية الموجودة في صحراء النقب جنوبي إسرائيل. بإمكان إسرائيل تدمير أحواض التخصيب في منشأة نطنز بالخارقة للتحصينات، إلا أنه يصعب عليها تدمير المجمع النووي الواقع في جبال فردو، قرب مدينة قم في عمق إيران. مع العلم أن طهران أخفت الكثير من المنشآت ووزعتها على مختلف الأماكن مما يحد من تأثير أي هجوم جوي تقوم به إسرائيل بمفردها ولا يقضي نهائيا على مجمل البرنامج النووي الإيراني مثلما حدث مع المفاعل النووي العراقي اوزيراك سنة 1981 أو مع المفاعل النووي السوري سنة 2007، اللذين دمرتهما إسرائيل. لا يخفي الإسرائيليون، والحال هذه، رغبتهم في الدخول في حرب استنزاف ضد طهران قبل حصول الأخيرة على التكنولوجيا النووية وذلك على غرار ما حدث مع مصر عبد الناصر في ستينيات القرن الماضي. كما تفضل تل أبيب القيام أولا بهجمات جوية على المنشآت الإيرانية مما سيستدعي ردا إيرانيا وهذا سيعطي بدوره إسرائيل "الحق" في الرد بمهاجمة المنشآت النفطية وشبكات الاتصال ومولدات الطاقة وباختصار شن هجومات مكثفة من أجل تدمير البنية التحتية لإيران. ويتمنى الإسرائيليون إقدام إيران، حينها، على غلق مضيق هرمز مما سيجبر الولاياتالمتحدة، والحلف الأطلسي ربما، على الدخول في المواجهة ضد إيران. سيناريو اليوم الموالي يتفق الأمريكيون والإسرائيليون على محدودية نتائج أي هجوم عسكري إسرائيلي على طهران التي قد يعاق برنامجها النووي مرحليا إلا أنه يصعب القضاء عليه نهائيا خاصة وأن الإيرانيين خبروا وتدربوا جيدا على بناء وتشغيل منشآتهم تحت الأنفاق على مدار السنوات الماضية. هنا، سيكون الهجوم الإسرائيلي موجعا إلا أن قدرته التدميرية ستكون، إلى حد ما، محدودة باعتبار استحالة القضاء نهائيا على البرنامج وتدمير جميع المنشآت تدميرا كاملا. أمام هكذا فرضية، ماذا سيفعل الإسرائيليون إذن؟ فهم، وكما سبقت الإشارة، يفضلون حربا طويلة الأمد نسبيا حيث تستمر طلعاتهم الجوية لضرب معظم المنشآت المعروفة أكثر من مرة لضمان تدميرها بالكامل مما سيؤدي إلى إحباط معنويات العاملين عليه وقطع إمداداته وجعل كلفته باهظة جدا بحيث يستحيل على طهران مواصلته. وفي الوقت نفسه يكون الحصار الدولي المضروب على طهران قد أنهك الاقتصاد الإيراني مما سيؤدي إلى انقلاب الشعب على السلطة التي تكون فقد فقدت الدعم السياسي الداخلي. حينها، وفقا لتوقعات الإسرائيلين، ستجد طهران نفسها مجبرة على التخلي على برنامجها النووي إما طوعا أو كراهة عن طريق ثورة شعبية داخلية. قطعا، سيؤدي أي هجوم إسرائيلي على إيران إلى وقف تدفق النفط عبر مضيق هرمز مما سيحدث خللا وإرباكا كبيرين للاقتصاد العالمي وسيحمل العالم تل أبيب مسؤولية ذلك. إلا أن القادة السياسيين والعسكريين الإسرائيليين لا يرون مانعا لذلك مقارنة ب"المخاطر الوجودية" التي سيواجهونها فيما لو امتلكت طهران التكنولوجيا النووية لاستخدامات مدنية أو عسكرية. لذلك يجد الإسرائيليون أنفسهم تحت تأثير وضغط كبيرين للقيام بعمل ما لتدمير أو إعاقة البرنامج النووي الإيراني قبل فوات الأوان. ولذلك أيضا، هم مصممون على المبادرة بمهاجمة طهران بمفردهم هذه المرة.