تقترن هذه السنة، سنة الثورة، بذكرى مرور قرن ونصف على إعلان أوّل دستور في تونس وفي العالم العربي والإسلامي (1861 .2011)، وهو حدث يتضمّن أبعادا رمزيّة تستحقّ الوقوف عندها غير أنّ عراقة الدستور التي طالما افتخرنا بها كدليل على سبقنا في مجال الحداثة السياسية، لا ينبغي أن تنسينا الجانب الآخر من المسألة. فصورة القصر الرئاسي الذي امتلأت خزائنه بالمال والذهب توحي، لو نظرنا إلى ما وراء الأخلاق والقانون، باستمرار ما يمكن وصفه مجازا بالثقافة السياسيّة المخزنيّة (نسبة إلى المخزن رمز سلطة البايات) حتىّ لكأنّ من أسقطته الثورة ليس ثاني رئيس للجمهورية التونسية بل بايا آخر وكأنّ جهود الحركة الإصلاحية منذ القرن 19 من أجل حكم «مقيّد بقانون» وما تلاها من محاولات تحديث سياسيّ لم تصل إلى أكثر من حكم مغلّف بالقانون وبالمؤسسات الحديثة دون تغيير هيكليّ للعقليّة التقليديّة. يجد المتأمّل للحياة السياسية منذ الاستقلال أنّ استمرار النظام التقليدي يتجلّى، على الأقلّ، في ثلاثة جوانب جوهريّة. أوّلها يتعلّق بالسلطة السياسيّة العليا التي لم تخضع في تحصيلها أو ممارستها أو انتقالها إلى القانون وإن تستّرت به. ويكفي هنا التذكير بالرئاسة مدى الحياة أو بمحاولات التوريث فضلا عن السلطة شبه المطلقة التي تمتّع بها رأس الدولة. وأما الجانب الثاني فهو الاقتصاد حيث لعبت السلطة دورا محوريّا في تكوين الثروة وتوزيعها دون التزام فعليّ بالقانون في حين يكمن الجانب الثالث في الثقافة السياسيّة السائدة التي من بين خصائصها اعتبار امتلاك السلطة في حدّ ذاته مصدرا للشرعية ومطيّة لتحصيل «الغنائم» التي توزّع حسب الولاء ضمانا لاستمرار الحكم وغيرها من الخصائص التي تحتاج إلى دراسة مفصّلة. ومن نتائج ذلك أنّنا لم نلج عصر الحداثة السياسيّة في واقع الأمر بل لعلّ ما حصل منذ القرن التاسع عشر كان في أفضل الأحوال تمهيدا مطوّلا لما نأمل جميعا أن يأتي بعد الثورة. كما أنّ الدستور في حدّ ذاته لا يكاد يعني شيئا ما لم تكن هناك مؤسسات قويّة وثقافة سياسية تحميه. فقد سقط دستور سنة 1861 على إثر ثورة علي بن غذاهم ثم علّق دستور الجمهورية التونسيّة المستقلّة بعد ثورة 14 جانفي. وهذا ما يعني أيضا أنّ مجرّد اعتماد النظام الجمهوري لم يكن واقيا من استمرار الثقافة السياسيّة المخزنية في الأذهان وفي الممارسات ولا ينفع بعدها الحديث عن جمهورية ثانية أو ثالثة سيرا على خطى الفرنسيين ما لم نكن متّفقين على أنّنا قد عشنا جمهورية أولى وليس نظاما ظاهره جمهوريّ وباطنه مخزنيّ. لعلّ الثورة قد فتحت الباب أمام الفكر السياسيّ الذي بقي غائبا كما قال الأستاذ هشام جعيّط وأمام العلوم السياسيّة التي لا نكاد نجد لها أثرا في تراثنا مثلما لاحظ الشيخ علي عبدالرازق قبله وبدون التفكير السياسيّ المستقلّ الذي ينطلق من خصوصيّات بلادنا وحضارتها لا سبيل إلى بناء حداثة سياسيّة. فالديموقراطيّات الغربية رغم اتفاقها في الهدف فهي قد تختلف في صياغتها لمفاهيم الحداثة. وإذا كان الفرنسيّون مثلا يعتبرون مفهوم الجمهوريّة رمزا جامعا لقيم الحداثة السياسيّة فإنّ البريطانيين والسكندينافيين أو حتى الأمريكيين والألمان لا يوافقونهم في ذلك حيث تغلب مفاهيم مركزية أخرى كالحريّة أو العدالة أو دولة القانون. ومهما يكن من أمر فإنّ شكل النظام في حدّ ذاته لا يختزل الحداثة السياسية. فليست بريطانيا الملكية أقلّ ديموقراطيّة من فرنسا الجمهورية ولا السويد أقلّ عدالة من إيطاليا ولا أنّ ملكيّة بعض الدول العربية ستكون بالضرورة حاجزا أمام بلوغها الحداثة السياسية. ولعلّ ازدهار التفكير السياسيّ المستقلّ يتطلّب مراجعة بعض الأفكار السائدة التي من بينها ثلاث قد تكون الأخطر وأوّلها فكرة النموذج سواء أكان أوروبيا أو أمريكيا. فقد قامت الثورة التونسية على غير مثال وخطّت طريقا لم تتّبع فيه غيرها وقدّمت للجميع درسا في الاستقلالية ينبغي استيعابه. أمّا الفكرة السائدة الثانية فتستند إلى فرضيّة استحالة التحديث السياسيّ بدعوى خصوصيّة الثقافة العربية الإسلامية أو القول بالتضارب بين الإسلام والديموقراطية كأساس لذرائع استعملها سلفيّون كما استغلّتها أنظمة مستبدّة تدّعي الحداثة لتبرير التسلّط والظلم. وأمّا الفكرة الشائعة الثالثة فهي فكرة القطيعة مع التراث رغم أنّ الواقع يثبت إمكانيّة الوصول إلى جوهر الحداثة السياسية سواء بإعلان القطيعة أو مع المحافظة على التقاليد ولو كان ذلك بشكل صوريّ مثلما هو الحال في بريطانيا أو في اليابان. إنّ من بين المنطلقات الرئيسية للفكر السياسيّ الديمقراطي الحديث مبدأ يتمثّل في أنّ كلّ من يمارس السلطة ينزع إلى إساءة استعمالها ما لم تردعه سلطة قانونية مضادّة. غير أنّ تنزيل ذلك المبدأ العام في الإطار التاريخي والاجتماعي قد يتطلّب فيما يخصّ بلادنا في مرحلة انتقالية على الأقلّ مراعاة طرفين هما الاستبداد والفوضى التي تبرز في صورة غياب سلطة شرعية قويّة. وإذا كانت الشرعية تنقسم إلى أنواع ثلاثة هي التقليدية والكاريزمية والعقلانية حسب عالم الاجتماع الألماني «ماكس فيبر» فإنّ تونس قد عرفت بالفعل دستور سنة 1861 في ظلّ شرعيةّ تقليدية ودستور سنة 1959 تحت راية الشرعية الكاريزمية للزعيم بورقيبة ولم يبق لنا غير بناء شرعية عقلانية حديثة تنطلق من وثيقة دستورية نأمل أن تصدر إن أمكن خلال سنة 2011 لتكون خير احتفال بالذكرى الخمسين بعد المائة لأوّل دستور تونسي حديث. نتمنّى أن يضمن الدستور الجديد سيادة قيم الحرية والعدالة والنظام (وهي مكونات شعار الجمهورية التونسية لمن لا يذكر...) في شكل متوازن بعد أن تمّ التركيز لعقود طويلة على النظام في مفهومه الضيّق والتقليدي لكي لا نقول المبتذل أي بمعنى العصا لمن عصى!