تمثّل الثورة فرصة لمنطلق جديد في مجال الصناعات التقليدية, قد يسمح بإيجاد الحلول المناسبة لهذا القطاع بعد أن تعذّر ذلك إلى حدّ الآن رغم كلّ المجهودات المبذولة فبعد موقف بدا أقرب إلى النفور من كلّ ما هو تقليدي, خلال السنوات الأولى من الاستقلال, وعودة طغى عليها الطابع المناسباتي فيما بعد, لم يبلغ هذا القطاع المكانة التي يستحقّها. لقد أدّت الثورة إلى تحرّر التونسي وعودته إلى ذاته وإلى جذوره, وإن كان ذلك بشكل صاخب أحيانا لعلّه من خصائص المرحلة الانتقالية التي نعيشها وانعكس هذا في اللباس وفي أشكال معيّنة من السلوك وربّما يكون الوقت الآن مناسبا للقيام بحملات واسعة قصد زيادة الإقبال على الصناعات التقليدية التونسية فالعودة إلى الجذور, سواء عند المتديّنين ( والحديث هنا عن ظاهرة اجتماعية لا عن إيديولوجيا) أو غيرهم, تعتبر أرضيّة ملائمة لمثل تلك الحملات خصوصا أنّها لم تأت على إثر «تعليمات» لحكومة مستبدّة ولا ترافقها ضغوط لفرض نوعية معيّنة من اللباس ولعلّ عدم تدخّل الدولة مباشرة في هذه المسألة سيكون عاملا مساعدا. فالمتديّنون في بلدان عربية وإسلامية أخرى يتمسّكون بلباسهم التقليدي ولا يلجأون إلى لباس مستورد وغريب عن عادات وتقاليد البلاد مثلما هو الحال لدى البعض عندنا, رغم أنّ الجبّة التونسية أو الشاشية مثلا إضافة إلى الملابس التقليدية النسائية التي تختلف باختلاف الجهات, تجمع بين ملاءمتها لمقتضيات الآداب العامّة ومستلزمات الأناقة فضلا عن انسجامها مع الذوق السليم وتجذّرها في تاريخ تونس وحضارتها فلماذا لا يلبس المتديّن التونسي اليوم مثل الإمام سحنون والشيخ الطاهر بن عاشور ولا تلبس المتديّنات مثل عزيزة عثمانة أو غيرها من «شهيرات التونسيات» عوض البحث عن نماذج من خارج الحدود؟ لعلّ ربط الحملات الدعائية بفكرة خلق مواطن شغل, وهو أمر لا يحتاج إلى دليل, سيجعل الجانب الأكبر من التونسيين يستجيبون بشكل أوضح, في وقت تشتدّ الحاجة فيه إلى ذلك فإذا كان اليوم الوطني للصناعات التقليدية قد ساهم سابقا في تشغيل المئات بل الآلاف فإنّ رواج المنتوجات التقليدية على مدار السنة بإمكانه أن يضاعف ذلك العدد كما يمكن لهذا القطاع أن يساهم في إحداث التغيير المنشود في مجالي التعليم والتكوين المهني باتجاه تثمين العمل اليدوي خصوصا وهو يستند إلى تاريخ طويل, فقد كانت الصناعات التقليدية مدعاة للفخر ورمزا للمنزلة الاجتماعية المتميزة وضمانا للمستقبل, وإذا كانت الثورة قد أدّت خدمة كبيرة لإشعاع تونس في العالم أجمع فإنّ ذلك بإمكانه المساهمة في زيادة الصادرات بما فيها الصناعات التقليدية التي يمكن أن تستفيد مثل غيرها أو أكثر من هذا العامل الجديد. وربّما تساعد الحريّة المتاحة الآن للمجتمع المدني في استرجاع هذا القطاع لقدرته على التنظيم الذاتي بعد أن كان مثالا لذلك في الماضي وقبل أن يصبح عبئا على الدولة بشكل من الأشكال ولا يتعلّق الأمر طبعا بالعودة إلى الأطر التقليدية التي زال الكثير منها ولكن يمكن استلهامها بشكل عصري, مثلما تمّت الدعوة في مصر مؤخرا إلى إنشاء «مجلس أعلى للحرف التقليدية» أو أيّ صيغة أخرى تتماشى مع خصوصيات القطاع ببلادنا. ويمكن للصناعات التقليدية وخاصة اللباس أن تمثل عامل إدماج اجتماعي باعتبارها قاسما مشتركا لكلّ التونسيين وتخفّف بذلك من مظاهر التطرّف الخارجية على الأقل وتستوعبها في بوتقة التراث الوطني الذي يبقى عنوان الإجماع بل إنّ التركيز على التراث التونسي قد يعطي للحوار الذي يرغب البعض في إثارته حول الهويّة بعدا ملموسا ويساهم في إبعادنا عن الكثير من المتاهات باعتبار أنّ التراث المادّي يبقى معطى موضوعيا وليس أفكارا مجرّدة. فقد نختلف حول فهمنا للعروبة والإسلام أو لمقوّمات الانتماء عموما ولكن لا أحد ينكر أنّ الإقبال على الصناعات التقليدية التونسية كجزء من التراث المادي التونسي يعتبر صيانة للهوية الوطنية فضلا عن كونه يخدم اقتصاد البلاد. وفي خضمّ هذا الزخم العالمي الذي نتج عن الثورة فقد يكون من المفيد التفكير في اقتراح إدراج صناعة الشاشية التونسية مثلا نظرا لتميّزها وعراقة تاريخها وتجذّرها في محيطها العربي الإسلامي والمتوسطي والإفريقي, في قائمة التراث اللامادي للإنسانية لدى منظمة اليونسكو, لما في ذلك من فائدة مرجوّة للصناعات التقليدية ولصورة البلاد ومكانتها في العالم.