تونس - الأسبوعي إن أضحت ظاهرة شرب المياه المعدنية أمرا واقعا لدى الطبقات الميسورة وحتى متوسطة الحال تجنبا للانعكاسات الصحية لمياه الحنفية.. فإن الفقراء وشرائح عدة من الناس من الذين لم يجدوا بدّا لدفع المال الوفير لاقتنائها، ظلوا يستعملونها كدواء الى حين أطلت عليهم ظاهرة جديدة انطلقت فكرتها ببعض جهات البلاد لتكتسح العاصمة وضواحيها ألا وهي توفير مياه عيون وبالتالي مياه معدنية «واصلة» الى حدود البيت وبأسعار لا تقبل المنافسة.. هذه المياه جاءت في ظرف خاص إذ أضحى العديد يشتكون من مياه الحنفية التي وإن ظلّت صحية لا تخلف مخاطر لمن يشربها فإن طعمها تغيّر كثيرا وكذلك حال لونها في بعض الحالات على حد ما أفادنا به المستجوبون فقد انتشرت في الأشهر الاخيرة ظاهرة لم نألفها من قبل، إنها ظاهرة بيع ما اصطلح على تسميته ب«ماء العيون».. شاحنات محملة بالأوعية البلاستيكية قادمة من أماكن مختلفة.. من زغوان والفحص والمحمدية وسيدي داود بنابل لتحط الرحال في بعض الأحياء.. ومن هناك يبدأ ترويج هذه السلعة الجديدة.. «الأسبوعي» حاولت رصد هذه الظاهرة الجديدة من جوانبها المختلفة وسعت الى كشف مختلف المعطيات من خلال استجواب الباعة والمستهلكين والحديث مع وزارة الصحة على اعتبارها الهيكل المراقب للمياه.
مياه الصوناد بطبربة تباع في أوعية نظرا لجودتها الوعاء سعة 10 لترات يباع بدينار والشاحنة توفر لصاحبها دخلا محترما «برّد يا عطشان» اذا كنت من متساكني بعض الأحياء الشعبية قد يصلك صدى بائع متجول وهو يشهر سلعته ويمجدها بأعلى صوته. ولمّا تسمع عبارة «برّد يا عطشان» يذهب في اعتقادك أن صاحبنا «يمدح» بعض أنواع المبردات.. وحتى لما يتناهى الى مسامعك وهو يصيح «أميّة زغوان تروي العطشان» لا تخال أنه يبيع ماء.. لكنك لما تسأل عن أصل الحكاية تتأكد أنك أمام تجارة جديدة.. واذا أردت الخروج للوقوف على الحقيقة يشدك مشهد شاحنة محملة بعشرات الأوعية البلاستيكية وهي تتجول بين الأنهج. ولما كان هذا المشهد غريبا في البداية أصبح مألوفا مع مرور الأيام. جسّ نبض واختبار بداية نشاط «تجار الماء» انطلقت بمجرّد جسّ النبض والوقوف على مدى تقبل الناس لفكرة اقتناء المياه غير المعلبة. وكانت في أذهان هؤلاء أسئلة كثيرة. وذهب في اعتقادهم أنه ستواجههم صعوبات كبيرة في إقناع المواطنين بجودة «سلعتهم » وكيفية ترويجها. وكان لابد أن ينطلق الاختبار الأول من العائلة ثم الجار وتدريجيا توسعت دائرة الإشعاع . والنتيجة إقبال الناس على هذه النوعية الجديدة من «الماء». فلا هي من المياه المعدنية المعلبة ولا هي من مياه الحنفية.. لتنال العمليات الاولى شهادة الاستحسان وأصبح التجار على يقين أنهم أمام أرضية ملائمة لممارسة نشاطهم. بين «العيون» وأماكن الترويج من هنا بدأ هؤلاء التجار يضعون استراتيجية متكاملة لتجارتهم الجديدة من حيث العيون العذبة وأماكن الترويج. أمكن لنا معاينة بعض العيون أوّلها قرب الحنايا بجهة المحمدية وكانت تشهد حركية كبيرة لكثرة الذين يقصدونها للتزود بالماء. وقد سألنا أحد التجار عن مصدر المياه التي يبيعونها فكشف لنا أنه توجد عديد العيون بجهة زغوان والفحص والمحمدية وسيدي داود وأضاف «كل تاجر يختار وجهته الى العين القريبة من الحي الذي سيروّج فيه سلعته. سألت تاجر آخر عن كيفية اختياره لأماكن الترويج فأشار الى أنه يختار دائما الأحياء الشعبية لأن أغلب الفئات التي تقطنها لا تقدر على اقتناء المياه المعدنية يوميا بكميات كبيرة ثم إن القدرة الشرائية لسكان الاحياء الراقية لا يمكن مقارنتها بالأحياء الشعبية وأضاف «إن هذه التجارة ليست سهلة لأن ملء عشرات الأوعية البلاستيكية يتطلب الكثير من الوقت أما ترويج حمولة شاحنة فإنه ليس بالأمر الهيّن ويستوجب يوما كاملا وأحيانا أكثر.. إن عملنا يتطلب التضحيات والكد والصبر. وأحيانا أقصد العين ليلا للتزوّد بالماء والغريب ان البعض يحسدنا على ما نحصل عليه من مرابيح دون أن يراعي أتعابنا». تجارة مربحة ومنافسة شديدة لمن يتساءل عن أسعار هذا الماء نقول إن التسعيرة أرادها هؤلاء التجار ان تكون موحدة في البداية فالوعاء الذي تبلغ سعته 10 لتر ثمنه دينار واحد أما الوعاء الذي سعته 20 لتر فثمنه بين 1500 مي ودينارين. ومع تكاثر عدد التجار ازدادت المنافسة وأصبحت الاسعار متباينة. ورغم هذا الاختلاف تبقى هذه التجارة مربحة وتدر على صاحبها مرابيح «صافية لا تقل عن 50 دينارا يوميا. وهو ما لا يمكن الحصول عليه بدون شك في أنشطة تجارية اخرى، سألنا أحد التجار عن المردود المالي لنشاطه فأجاب «الحمد لله وين كنت وين أصبحت.. إنها «خبيزة» إذا تركونا أولاد الحلال في حالنا.. المهم اننا نعمل بعرق جبيننا ونعيل أسرنا». سألت تاجر آخر عن مدى رواج هذا المنتوج «المبتكر» فأوضح لنا أن إقبال الناس على هذا الماء أصبح يتزايد يوما بعد آخر خصوصا أن الكثيرين جلبهم سعره المقبول مقارنة بالمياه المعدنية كما اكتشفوا أنه ا فضل من ماء الحنفية. تدوير الدولاب لا يمكن الاستغراب من هذه الظاهرة نظرا للالتزامات المادية المفروضة على العديد من أصحاب الشاحنات من حيث الديون المتخلدة بذمتهم لشركات الإيجار المالي» هكذا بدأ احد باعة الماء حديثه معنا مشيرا الى أن غاية الجميع هو استنباط أفكار للاسترزاق و«تدوير الدولاب». «غش وضحك على الذقون» اذا كان أغلب تجار الماء يتعاملون بشفافية مع حرفائهم فإن قلة منهم يعمدون أحيانا الى الغش وذلك بخلط ماء العيون بمياه الحنفية وليس من السهل التفطن الى هذه العملية. وهذا الضحك على الذقون» يطرح نقاط استفهام عديدة لأن المعاملة بين التاجر والحريف ينبغي أن تنبني دائما على الوضوح والمصداقية. ولمياه الصوناد نصيب أيضا تاجر آخر صادفناه بوادي الليل ذكر صراحة بأن مياه الصوناد بجهة طبربة التي قال عنها أنها على ذلك المستوى قادمة من عين دراهم وهي مياه معروفة بمذاقها العذب وجودة نوعيتها بحكم خضوعها للرقابة.. ويعمد يوميا الى ملئ عديد الاوعية البلاستيكية ويباشر عملية توزيعها على حرفاء له بالمناطق القريبة يحبذون استعمال ذلك النوع من المياه ويقبلون دفع 500 مي عن كل وعاء بسعة 10 لترات عن طيب خاطر رغم علمهم المسبق بمصدره.. ولكن الفرق على مستوى نوعية وعذوبةالمياه هو عزاؤهم في ذلك.. تطوير للنشاط بعض التجار لنفس المادة أي مياه العيون بالضواحي الشمالية وخاصة منطقة الكرم والمناطق المحاذية لها قاموا بتطوير أنشطتهم بعد أن درت عليهم هذه التجارة أرباحا هامة وقاموا بتعويض الايسيزي والباشي بعربات من صنف أكبر كعربات «الأوام» (OM) والفيات 110 لمجابهة الطلب الكبير على هذه السلعة من قبل حرفاء يكبر عددهم يوما بعد يوم. حرفاء «الكريدي» لمزيد ترغيب المواطن في الاقبال على هذه النوعية الجديدة من الماء يتبع الباعة أسلوب التسهيلات في الدفع والتعامل «الكريدي» مع الحرفاء الأوفياء طبعا وهو ما أكده لنا العديد ممن صادفناهم . والسؤال المطروح هو هل ان ميزانية المواطن مازالت تسمح بمنفذ «كريدي» آخر بعد «كرني كريدي» العطار والجزار والخضار..ثم لماذا يقبل المواطن على اقتناء هذه المياه. نفور من مياه الصوناد تقول السيّدة فتحية العبيدي من حي التضامن اقتنت لتوّها وعاء بلاستيكيا عن سبب تحولها الى حريفة دائمة لهؤلاء الباعة المتجولين للمياه فأشارت الى أن ماء الحنفية يتغير لونه ورائحته بشكل يصعب شربه أحيانا لذلك وجدت ظالتها في هذا الماء وأضافت «لم أكن الاولى التي تقتني هذه المياه فالكثيرون تعودوا على اقتنائها منذ اشهر عديدة الى حد أصبحوا لا يرغبون في شرب مياه الحنفية ». «هروب» من مياه «الصوناد» أردنا التدقيق أكثر مع من التقيناهم فأكدت لنا السيدة فطومة الدريدي من السيجومي انها تعودت على اقتناء هذا «الماء» منذ أشهر طويلة لأن مياه «الصوناد» تصبح أحيانا على غير عادتها من حيث لونها ورائحتها على حد قولها بل أن البعض - وحتى قبل ظهور هذه النوعية من المياه الجديدة تعوّد على اقتناء المياه المعدنية لاستعمالها في الشرب والطبخ. وأوضح لنا الحاج سعد الرابحي من المحمدية أنه يقتني بين فترة وأخرى كمية من هذه المياه وأضاف «مياه الصوناد» تتغير كلما قلت مياه الامطار وأصبحنا نعاني في الأشهر التي ينحبس فيها نزول الغيث النافع أما المياه الجديدة التي يتم ترويجها فهي أفضل من ناحية عذوبتها و«خفتها». أما الخالة زهرة بن نصر من حي سيدي حسين قالت «منذ أن تعودت على شرب هذه المياه الجديدة لم أعد قادرة على شرب مياه «الصوناد» ولما يتأخر باعة هذه المياه أحيانا اضطر الى اقتناء كمية من المياه المعدنية». وأضافت أن تجارة المياه الجديدة ازدهرت في عديد الأحياء. وأبرز لنا السيد عبد الرزاق بن جمعة من حي التضامن - ان الكثيرين تذمروا من مياه «الصوناد» حتى قبل بروز ظاهرة بيع المياه مشددا على أن ماء الحنفية يفقد خصوصياته احيانا مما جعل البعض لا يستعمله الا للغسل والطبخ. وأوضح لنا مواطن آخر من سكرة أن ظاهرة بيع الماء تكاثرت في أغلب الأحياء وازديادها واقبال المواطن على هذه «السلعة» يعني بالضرورة رغبته في الهروب من مياه «الصوناد» التي كثر بشأنها الكلام مضيفا أنه لا يمكن تغطية عين الشمس بالغربال.