مدير مسبح البلفيدير .. 18 مليارا كلفة اعادة التهيئة    بناء المواجل حل لمواجهة شحّ المياه    موعد افتتاح الدورة البرلمانية الجديدة    أسعار الزيت المتداولة    مع الشروق ..أسطورة... شهيد حي    صدرو قرار بالرائد الرسمي يتلعق بضبط تاريخ دورتي امتحان البكالوريا لسنة 2025    الأعمال الكاملة للروائي التونسي الأمين السعيدي في معرض الكويت الدولي للكتاب    شيرين عبد الوهاب تدخل موسوعة'غينيس' للأرقام القياسية.. ما القصة؟    الملاسين: تفكيك شبكة مُختصّة في مجال ترويج المُخدّرات    صندوق النقد يخفض توقعاته بشأن النمو الاقتصادي في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا    رد من الشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه    إعلام عبري: المسيّرة التي استهدفت منزل نتنياهو انفجرت في نافذة غرفة نومه    عاجل: شاهقة مائية تظهر في قرقنة    الدورة الثالثة لمهرجان الإبداع الفني في الصحراء "نجع الفن" من 27 أكتوبر الى 02 نوفمبر بدوز    مطار يمنع العناق لأكثر من 3 دقائق    مختصّة في أمراض الكلى: ماء الحنفية يحتوي على كميات أقلّ من النترات    عاجل/ ميناء حلق الوادي: ضبط أكثر من 1 كغ من الكوكايين على متن باخرة قادمة من الخارج    القيروان: حادث مرور يسفر عن 6 وفيات    رسميا: قطيعة بالتراضي بين الترجي الرياضي والبرتغالي "ميغيل كاردوزو"    كميّات الأمطار المسجلة خلال ال24 ساعة المنقضية    27 نائبا يمضون على مقترح تنقيح القانون الأساسي للبنك المركزي    خمس أسباب تدفعك للاستقالة من شركة طيران خليجية    المنتخب الوطني التونسي لكرة القدم: فك الارتباط مع المدرب فوزي البنزرتي    الشبيكة: ثلاثة قتلى واصابة ستة أخرين في حادث مرور    عاجل/ الحوثيون يستهدفون قاعدة عسكرية في "تل أبيب" بصاروخ باليستي    انطلاق اجتماعات الخريف لصندوق النقد والبنك الدوليين    بطولة الكرة الطائرة للسيدات: تعيينات مواجهات الجولة الإفتتاحية    الدورة السابعة من روحانيات من 30 أكتوبر إلى 2 نوفمبر    محمد صلاح يضع شرطا واحدا لتجديد عقده مع ليفربول...ماهو؟    معهد الرصد الجوي : الوضع الجوي مازال تحت اليقظة الشديدة خاصة في ولايات    صفاقس: إستئناف الدروس مع تأجيل الإمتحانات    البنك الوطني الفلاحي: ارتفاع طفيف في الناتج البنكي الصافي موفى سبتمبر 2024    رسمي: الترفيع في طاقة استيعاب مراكز الفحص الفني    الصندوق العالمي للطبيعة يؤكد على أهميّة بناء المواجل في تونس    وكالة النهوض بالاستثمارات الفلاحية تنظم المشاركة التونسية في المعرض الدولي للفواكه والخضرمن 5 الى 7 نوفمبر 2025 ببرلين    الحرس الوطني يدعو الى توخي الحذر تحسبا لتساقط كميات هامة من الامطار بهذه الولايات    المهدية: تعليق الدروس بعدد من المعتمديات بسبب التقلبات الجوية    الرابطة الأولى: النجم الساحلي يفقد خدمات أبرز ركائزه في مواجهة الترجي الرياضي    التقلبات الجوية: أبرز تدخلات الحماية المدنية خلال 24 ساعة الماضية..    محرز الغنوشي: الرجاء التنقّل الّا للضرورة القصوى بهذه المناطق    عاجل/ بسبب الأمطار: تأجيل الجلسات بجميع محاكم هذه الولاية إلى وقت لاحق..    سليانة: وضع 10 ألاف و150 قنطارا من البذور الممتازة منذ بداية الموسم بمراكز التجميع    اجتماع طارئ للجامعة العربية    "أعطونا ما سرقتم منا".. ملك بريطانيا يتعرض لموقف محرج في البرلمان الأسترالي    ما هي إشارات Bookmark المرجعية، وكيف تستخدمها على باب نات؟    المهدية: لجنة مجابهة الكوارث تقرر تعليق الدروس ب7معتمديات    عملاق الزمن الجميل: جميل الدخلاوي ... وداعا    الدورة الثالثة لمهرجان نجع الفن...«رملة» مشروع موسيقي ضخم يجمع كريم الثليبي بزياد الزواري    أصبح ظاهرة متفشية في مؤسساتنا التربوية .. التدخين يقتل أطفالنا في صمت !    وفاة الإعلامي جميل الدخلاوي    مستقبل قابس ينهي العلاقة التعاقدية مع المدرب عبد المجيد الدين الجيلاني    ديوان الإفتاء: إمرأة وإبنتها تعتنقان الإسلام    نادين نجيم تنفي صحة الشائعات حول انفصالها عن خطيبها    عاجل : أنس جابر تتقدم إلى المركز 32 عالميا    تأثير الكافيين على وزن الجسم والإصابة بالسكري    بعدك يا نصر الله، بعدك يا سنوار    يا يحي .. خذ القضية بقوة..    مفتي الجمهورية في زيارة لشركة مختصّة في انتاج زيت الزيتون البكر وتعليبه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تعديل ساعة حياتهم قد يكلفهم تعطيلها
العاملون في الليل:
نشر في الصباح يوم 14 - 07 - 2009


معاناة، مجازفة وتداعيات صحية وعائلية خطيرة
تونس - الصباح
جمعهم توقيت العمل ومكان الحركة فيه وفرقهم الاختصاص. أخذ كل منهم يؤدي عمله كما لو كان فردا من عرض مسرحي عنوانه "العمل الليلي" وركحه ساحة باب سعدون بالعاصمة، أما مخرجه فكان السعي وراء لقمة العيش الذي أجمع جل من وجدوا أنفسهم أمام واجب العمل ليلا أنه الدافع وراء التضحية بالنوم الذي ينعم به الآخرون.
لكل السيناريو الذي قدمه ولكن المشهد واحد: معاناة ومجازفة وطرائف وتعب وتداعيات سلبية على صحتهم. ورغم ذلك هم مازالوا يعملون. ففيما اختار البعض النوم أو السهر في المهرجانات والحفلات رفقة العائلة والأصدقاء وجد البعض الآخر نفسه مجبرا على كسب قوته وقوت أسرته، فضحى بالوقت وبالجهد وجند نفسه لينعم البقية بالراحة.
المكان ساحة باب سعدون أما الزمان فهو الساعة العاشرة ليلا: صمت خيم على المكان لم يقطعه سوى صوت منبهات السيارات ومحركاتها التي جابت المفترق ذو الاتجاه الدوراني ذهابا وإيابا، وفجأة يستوقفك مشهد ذلك الجرار بلونه البرتقالي يعبر ذلك المفترق متثاقلا يبحث عن ضالته من قمامة وأوساخ تركها العاملون نهارا وراءهم ليرفعها عمل الليل وليخلصوهم من رائحتها. رفع عامل التنظيف، الذي اتفق وزملاءه على عدم تقديم هوياتهم مخافة مغبة البوح بأسرار عملهم أو لتقل معاناتهم، رفع يده اليمنى فيما تشبث بمؤخرة الجرار بيده اليسرى مشيرا إلى السائق بالتوقف ليرفع ما وضعه أصحاب العمارة المقابلة لأقواس الباب من فضلات فأذعن السائق. ونزل العامل مهرولا يجر لوحا خشبيا وصندوقا انحنى له ظهره الذي تقوس من فرط الانحناء أو ربما هو أحد آثار 12 سنة من العمل التي قضاها ليلا في هذا العمل. أفرغ ما احتواه المكان من أكياس بلاستيكية تناثر بعض محتوياتها وقال متنهدا: "...تنطلق رحلة العمل عند الساعة التاسعة ليلا لتتواصل إلى حدود الساعة السابعة صباحا هي رحلة محفوفة بالمخاطر.
ليس بعيدا عن مكان توقف الجرار يستوقفك الشارع المؤدي إلى مستشفى الأطفال بباب سعدون، قسم الاستعجالي تحديدا. وهناك مشهد آخر من معاناة هؤولاء العملة وتضحيتهم ليلا يلخصه السيد صابر الجليدي حارس المستشفى بقوله: "... لا يمكن تصور التعب الناتج عن العمل ليلا: فمناوبة العمل من الساعة السادسة مساء إلى غاية الساعة السادسة صباحا ليست بالأمر الهين، سيما على من يقطنون بعيدا عن مكان عملهم، وهذا ما يؤرقني، إذ أقضي ما لا يقل عن 14 ساعة بعيدا عن أسرتي وفي ذلك ما يكفي من القسوة... لكن بالرغم من هذه الوضعية تراني أحب عملي وأعشقه فهو مصدر رزقي الوحيد وبه أعيش...".
ويواصل السيد صابر وصفه طبيعة العمل ليلا وقد بدت على ملامحه علامات الوهن والإرهاق: "لقد تعودت على هذا النسق من العمل ولم يعد لهذا التوقيت تأثير...كانت بداية التكيف مع وقع العمل ليلا صعبة لكن الآن وبعد مرور سنين على هذا العمل هنا أصبح الاستقرار على إيقاع واحد في العمل أمرا هينا... ".
لكن ربع قرن لم تكن بالفترة الهينة بالنسبة إلى السيد عمر الحمزاوي العامل بمخبزة كيلاني، قرب ساحة باب سعدون. 25 سنة مدة قضاها في الميدان دون كلل ودون ملل متحديا ضغط وتيرة العمل ومتحديا حرارة المخبزة "... التي لا تطاق سيما في فصل الصيف..." على حد تعبيره.
تتال قدوم الزبائن وتكررت تلك الابتسامة والتحية التي يبادر بها كل زبون. فتراه غير مبال بالوقوف لساعات أمام واجهة المخبزة التي تعرض ما جادت به يداه، غير مكترث بملامح التعب التي طغت على محياه ملبيا طلبات حرفائه الذين غصت بهم المخبزة.
اللجوء إلى تعاطي التدخين مهرب اختاره السيد كمال نادل بمقهى كحل "يزيد في عمق البلية"، بلية مضار العمل ليلا، ليتناسى طول السهر وإرهاق العمل. "... غالبية الزبائن ترتاد المقهى ليلا انطلاقا من الساعة الثامنة ويتواصل سهرهم حتى ساعة متأخرة من الليل، وفي أثناء ذلك لا يمكن التوقف ولو لبرهة لالتقاط الأنفاس: فذلك يرغب في قهوة والآخر يود لعب الورق صحبة رفاقه وهذا يود الحصول على "ولعة شيشة" وهكذا دواليك...".
يقول كمال ذلك وقد أمسك طبقا بيد ومنديلا بيده الأخرى فيما وضع على خصره حافظة نقود، لم تثنه عن الإسراع في عمله ولم تبطأ من خطواته. فعاود الهرولة مسرعا الخطى يتنقل بين صفوف الكراسي والطاولات التي عجت بمن لم يقعوا فريسة العمل الليلي يلبي رغبات ذلك ويهدأ من روع ذاك والكلمة واحدة "... حاضر... حاضر... " والسيجارة لا تغادر أعلى أذنه.
آثار كارثية
"... مجال التمريض والطب عموما مجال إنساني". تقول السيدة إيمان النجار إطار شبه طبي، بقسم الاستعجالي. ذلك مؤكدة أن "... تحمل مسؤولية 20 مريضا في القسم الذي أعمل فيه ليلا ليس بالأمر الهين... ". لكن العمل بجد والاستمتاع به سيما مع المرضى الأطفال يجعل من الصعب هينا على حد تعبيرها.
وما يؤرق السيدة إيمان غياب فضاء للأطر شبه الطبية في المستشفى حتى يلجؤوافيه للراحة فتراها تجوب أروقة القسم ذهابا وإيابا مما يتسبب لها في آلام على مستوى القدمين وفي أحسن الأحوال تراها جالسة على مقعد شكله كفيل بالتسبب بآلام الظهر لجالسه. هي وزملائها على أهبة الاستعداد لخدمة الوافدين على قسم الاستعجالي من مرضى غير مبالين بتواتر المناسبات وتعاقبها. "... فلا إفطار رمضان ولا حضور مناسبات وأفراح أبجل من إسعاد مريض والعناية به... ".
من جهته أشار الدكتور مصدق من قسم الاستعجالي إلى أن العمل ليلا يقود إلزاما إلى الحديث عن الضغوطات العصبية والنفسية والاضطرابات الجسدية وتزايد احتمال الإصابة بالأمراض جراء تفاوت أوقات النوم كما يؤدي أيضا إلى ضعف الذاكرة واختلال القدرة على التركيز والإصابة بصداع في الصباح وعند الاستيقاظ.
أما السيدة نعيمة فاخر، عاملة بالقسم، فهي تشاطر ما أدلت به السيدة إيمان، وأضافت: "... الاحتكاك بالمرضى في قسم الاستعجالي ليس بالأمر اليسير وهذا يستوجب معرفة كيفية التعامل مع المريض والتفاهم معه بل وتفهم حالته النفسية التي تستوجبها طبيعة القسم من استعجالية... لكن بعد مرور 21 سنة من العمل فيه تعودت على الممارسات التي يعيشها العاملون بالمستشفى ليلا من قبل المرضى الذين لا يتوانى بعضهم على إشباعهم بألوان شتى من الإهانات تصل حد الشتم أحيانا وهذا ما يزيد في حدة الضغط والغضب والإرهاق أيضا...".
وما أرق السيدة نعيمة صعوبة التوفيق بين واجباتها الأسرية، سيما أنها أم لابن وحيد، وواجباتها المهنية. فتتحدث عن تجربتها قائلة: " ما يحز في نفسي أني أشتاق كثيرا لأفراد أسرتي... لكن ما باليد حيلة إذ تراني منهكة القوى بعد انتهاء فترة العمل الليلي، فأعود مسرعة إلى المنزل لأنجز ما تخلد بذمتي من واجبات وبمجرد إنهائها أخلد إلى الراحة والنوم مباشرة وهكذا دواليك...".
وواصلت قولها: "... صحيح أن العمل يتطلب السهر إلى أوقات متأخرة من الليل وحتى صباح اليوم التالي، من الساعة السابعة مساء إلى السابعة صباحا، هذا بالإضافة إلى صعود 5 طوابق مرارا وتكرارا في الليلة الواحدة وعدم إغماض جفن ولو لحين... لكن مساعدة المرضى يعد بالنسبة إلي إنجازا إنسانيا ومصدر فخر وتضحية... ".
وعن هذه التضحية تتذكر السيدة نعيمة طرفة وقعت يوم عيد الإضحى. حيث اضطرت للخروج بمجرد انبلاج فجره حتى تلتحق بعملها اثر اتصال المستشفى بها هاتفيا فاضطرت أمام ندرة وسائل النقل إلى اكتراء سيارة بثلاث عجلات أعدت لحمل الجلد لا لشيء إلا لتصل في أسرع وقت ممكن وذلك خدمة للحالة الاستعجالية التي تنتظرها في المستشفى. لكنها ضحت في المقابل بفرحة الاحتفال بالعيد مع عائلتها وهو ما حز في نفسها كثيرا.
"آثار العمل ليلا وانعكاساته سلبية ولا ريب فالنوم ضرورة حياتية يعتمد عليها الإنسان ليعيش " حسب ما أشار إليه أحد الأطباء العاملين في قسم الاستعجالي ف "...الأشخاص الذين يعملون في الليل هم عرضة للإصابة بالأمراض أكثر من غيرهم". وفسر الطبيب ذلك استنادا إلى تركيبة الجسم " الذي لا يقدم نفس المردود ليلامثلما هو الحال نهارا". وكدليل قدم تشخيصا لحالة الشخص الذي يعمل ليلا عند نهاية فترة العمل: " إذ يصبح الجسم منهكا ومتعباً كما يصل الشخص إلى مرحلة قلة النشاط فتضعف مقدرته على التركيز ويسيطر عليه الارتباك وهذا يفسر إصابته بتوعكات صحية... ".
وما يدعم صحة هذا التشخيص وضعية عملة التنظيف الذين أبدوا انزعاجهم من تأثير العمل ليلا على صحتهم فبالإضافة إلى الضغط النفسي الذي يسلطه بعض المواطنون عليهم يجدون أنفسهم عرضة لأخطار أخرى لخصها أحدهم قد أمضى 12 سنة من العمل كما يلي: "... التعرض إلى الوخز بالإبر والجرح بالبلور المكسور أمام غياب استعمال القفازات التي إن حضرت غابت ديمومتها فكانت سريعة التآكل أو التمزق أصبح أمرا لا يطاق... "على حد قوله. وواصل "... رائحة القمامة أثرت في جهازي التنفسي فأصبحت رهن تناول الدواء وصوت منبهات السيارات لم يعد بالإمكان تحمله فما بالك بتكرر هذا الوضع 6 مرات ليليا مع كل ذهاب وإياب لجرار جمع القمامة. والأدهى في فصل الشتاء... وتلك معاناة أخرى...".
"ممزق أنا" هو التعبير الذي ينطبق على وضعية الكثير من العملة الذين وجدوا أنفسهم ضحية توقيت عمل يجهلون وتيرته فبالتنقل بين العمل في الليل والعمل في النهار تراهم يسعون جاهدين إلى عدم التغيب. التناوب في العمل هي أكثر ما ترهق العاملين في بعض الاختصاصات فوتيرة العمل باتت تحكمها ارتباطات زملائهم في العمل فيجد المرء نفسه أحيانا مجبرا على تجاوز الفترة المخصصة للعمل لينتظر وصول زميله حتى يأخذ عنه أرق العمل ليلا وتعبه وهذا ما يسبب انفعاله.
لم يستوف العرض كافة فصوله بل اقتصر على أجزاء وأغفل عن غير قصد أجزاء من العاملين ليلا الذين جمعهم توقيت العمل وشقاؤه ومخاطره...


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.