من التهافت على القطاع الخاص إلى التسابق على التسجيل في المدارس الأجنبية الخاصة على غرار المدرسة الكندية بتونس والبريطانية، إلى آخره من المدارس الأجنبية المنتشرة ببلادنا والتي تحول التّمدرس بها إلى نوع من الظاهرة في مواكبة لأحدث التقليعات. هكذا هو حال بعض أولياء الأمور اليوم الذين وجدوا في هذه المدارس ملاذا لهم رغم أسعارها المشطة، وهكذا هو حال واقعنا التربوي الذي أضحى اليوم يرزح بين عودتين مدرسيتين: واحدة كما هو متعارف عليها يوم 15 سبتمبر الجاري وتشمل القطاع العمومي والخاص وأخرى قد انطلقت فعليا في المدارس الأجنبية الخاصة (بتاريخ 4 سبتمبر الجاري). هذه الظاهرة تستحق على حد المهتمين بالشأن التربوي التوقف عندها والتمعن في أبرز الأسباب المفضية إليها فضلا عن كونها تدفع إلى التساؤل بجدية حول مآل ومستقبل القطاع العمومي الذي أضحى بين فكي المدارس التونسية الخاصة وأخرى أجنبية خاصة. وبالتوازي مع انتشار المدارس الأجنبية الخاصة فقد تنامى وبشكل ملفت للانتباه عدد المدارس التونسية الخاصة في ظل تهافت الأولياء على تسجيل أبنائهم في المدارس الخاصة بشقيها «التونسي والأجنبي» هربا، على حد تأكيد كثيرين، من القطاع العمومي ومشاكله لا سيّما أن السنة الدراسية الماضية كانت بمثابة «كابوس» لغالبية الأولياء. من هذا المنطلق لم يعد اليوم القطاع الخاص حكرا على فئة معينة من التونسيين بل أضحى قسرا يستقطب الطبقة الوسطى فغالبية الأولياء اكتووا وعلى حد تأكيد كثيرين بنار «الإضرابات» وسئموا الزج بأبنائهم في صراعات سياسوية ضيّقة كما ملّوا المخاوف المتكررة كل سنة من مغبة الوقوع في سنة دراسية بيضاء. ولأن التّونسي يبقى هاجسه الوحيد الدراسة وضمان مستقبل أبنائه فانه يضحي بالنفيس والغالي كما «يتحدى» إمكانياته المادية شريطة نجاح أبنائه كلفه ذلك ما كلف حتى أن شقا كبيرا من الأولياء أضحى يعتمد على قروض بنكية لتامين متطلبات القطاع الخاص. بلغ عدد المدارس التونسية الخاصة في تونس 400 مدرسة وفقا لما أكدته ل»الصباح» رئيسة الغرفة الجهوية للتعليم الخاص رملة الشملي وهو رقم اعتبرته الشملي مهولا مستنكرة في السياق ذاته انتشار المدارس الخاصة وبشكل ملفت للانتباه في بعض المناطق على غرار أريانة، باردو، البحيرة.. الخ مشيرة إلى ان لقاء كان قد جمعها مؤخّرا بوزير التربية تمحور حول كراس الشروط الجديد المزمع إعداده للقطاع الخاص علاوة على ضرورة تنظيم هذا القطاع معتبرة في السياق ذاته أن إنقاذ القطاع الخاص هو رهين الحد من إسناد الرخص فضلا عن ضرورة تنظيمه من خلال تفعيل أكثر للآليات الرقابية في ظل وجود مدارس خاصة لا تستجيب لكرّاس الشروط. وفي ما يتعلّق بتهافت بعض الأولياء على تسجيل أبنائهم بالمدارس الأجنبية الخاصة بتونس اعتبرت الشّملي أن هذه المسالة أضحت بمثابة الظاهرة الملفتة للانتباه مشيرة إلى ان هذه المدارس أضحت «موضة» بالنسبة إلى بعض الأولياء رغم تكاليفها المٌشطة والتي تتراوح بين 11 و12 ألف دينار فضلا عن أن فحوى هذه البرامج لا تخضع لإشراف وزارة التربية. من جهة أخرى وفي تفاعله مع ظاهرة إقبال الأولياء على تسجيل أبنائهم بالمدارس الخاصة لا سما الأجنبية منها أورد عضو اللجنة العليا للإصلاح التربوي وكاتب عام نقابة متفقدي التعليم الابتدائي نور الدين الشمنقي في تصريح ل»الصباح» أن المدارس الأجنبية الخاصة تحولت في تونس إلى ظاهرة بعد أن كانت المسالة منحصرة في بعض الحالات غير المعروفة الى جانب ما وصفه «بالانفجار» الحاصل في انتشار المدارس الخاصة. وقال الشمنقي في هذا الإطار: «من موقعي كخبير ونقابي أعتبر ذلك حالة مرضية ناتجة عن عوامل كبيرة». وفسر محدثنا أن هناك سياسة لبيرالية تريد وتسعى بكل الطرق إلى الهيمنة على العالم وتسويد هذا النظام النيوليبيرالي الشرس لا سيما في قطاع التربية والتعليم نظرا للمردودية الربحية العالية. وأضاف الشمنقي ان السياسات المتعاقبة في تونس هي سياسات خاضعة لهذه الاملاءات والأطراف السياسية الحاكمة تجتهد في ان يكون التلميذ «نجيبا» في تطبيق املاءات هذه الدوائر. كما اعتبر الشمنقي انه لا توجد إرادة سياسية لدى المنظومة الحاكمة للاستثمار في الذكاء التونسي والاستثمار في التربية والتعليم وإعادة الامتياز للمدرسة العمومية التي شدد محدثنا على أنها لا تزال تحتفظ بمستوى مقبول لدى الرأي العام بدليل ان نسب النجاح في المناظرات الوطنية لم تتجاوز ال4 بالمائة في المدارس الخاصة. كما أضاف الشمنقي ان هناك عودة سنوية وبأعداد كبيرة من القطاع الخاص إلى العمومي من قبل الأولياء الذين عادوا ليسجلوا أبناءهم في المدارس العمومية بما يعكس أن المدارس الخاصة لا تقدم مردودا تعليميا وتربويا ذا جودة عالية بينما تؤمن المدرسة العمومية حدا أدنى من التكوين المستمر للإطارات التربوية وهو ما تفتقده المدارس الخاصة التي يغلب عليها طابع الربحية دون البحث والتفكير عن الجودة. ليخلص محدثنا إلى القول إن ذلك لا يجب أن يحجب عنا المشاكل المتعددة للمدرسة العمومية على غرار البنية التحتية المتردية وغياب الرؤية التثقيفية والترفيهية بما يحوّل المدرسة إلى فضاء للسعادة، على حد تشخيصه.